قائمة الموقع

نحو تفاعل أكبر مع القرآن في شهر رمضان

2010-08-25T11:49:00+03:00

أ. يوسف علي فرحات         

لعل أهم ما يميز شهر رمضان هو القرآن الكريم ، كيف لا وفيه نزل ، لذا كان أحب الشهور إلى الله تعالى . ولعل سلفنا الصالح أدركوا هذه الحقيقية أكثر منا لذا أجادوا وأحسنوا التعامل مع هذا الشهر الكريم ، فكانوا أكثر تفاعلاً مع القرآن الكريم ، لذا كانوا  يفرّون في رمضان من كل شيء إلى القرآن، ويتنافسون في ذلك، فكان قتادة يدرس القرآن في رمضان في المسجد ويختمه كل سبع ليالٍ مرة، فإذا جاء رمضان اجتهد في التدريس، وختم القرآن كل ثلاث ليال مرة، وكان الأسود يختمه في كل ليلتين، وأما الإمام مالك بن أنس وهو محدث المدينة، فكان إذا أقبل رمضان يفرّ من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويقبل على قراءة القرآن من المصحف .

وإذا كان الإقبال على القرآن الكريم بالإكثار من تلاوته والاشتغال به في شهر رمضان ، هو صورة من صور التفاعل مع القرآن ، إلا أن هناك جملة من الواجبات الأخرى التي يجب أن يتحقق بها المسلم نحو كتاب الله تعالى ، منها : 

1- أن نؤمن إيماناً جازماً لازماً لا ضعف فيه ولا وهن معه بأنه لا ينقذنا مما نحن فيه من حالة الوهن  إلا منهاج  مستمد من كتاب الله تعالى .  فالقرآن الكريم منهاج للفرد والجماعة ، يضع لهم أسس حياتهم وينير الطريق أمامهم ، ويأخذ بأيديهم  إلى الجنة وقد جاء في الحديث ( القرآن شافع مُشفَّع وَمَاحلٌ – أي ساع – مُصَدِّقٌ من جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار ) [ ذكره الألباني في السلسلة الصحيحة (2019) ]

2- أن نتخذ من كتاب الله تعالى أنيساً وسميراً ومعلماً نتلوه ونقرأه، وألا يمرّ يوم من الأيام حتى تكون لنا صلة بالله تعالى، وهكذا كان أسلافنا رضي الله عنهم، ما كانوا يشبعون من القرآن الكريم، وما كانوا يهجرونه . وهذا لا بد أن يكون في رمضان وغير رمضان ، لأن القرآن هو غذاء الروح للإنسان ، فإذا امتنع عن هذا الغذاء ماتت روحه    

3- مراعاة آداب تلاوة القرآن، وذلك بأن نحسن تلاوته وأن نرتله إذا تلوناه ترتيلاً ، بأن نجود حروفه . ومن فضل تعالى أن يسَّر لنا هذا ، من خلال الإذاعات والفضائيات ، بحيث لم يبق عذر لمقصر . 

4- ولا بد من تقويم اللسان بالقرآن ، فمن فضائل القرآن وتلاوته أنه يمنح صاحبه الفصاحة والقدرة على الخطابة . ويذكر الشيخ القرضاوي أن بعض النصارى في مصر كانوا يعلمون أولادهم القرآن في الصغر ليكون عوناً لهم على الفصاحة في مستقبلهم . ويذكر أن مكرم عبيد – وهو قبطي وزعيم سياسي معروف في مصر – من الخطباء المشهورين والذي أعطاه القدرة على الخطابة حفظه للكثير من القرآن الكريم واقتباسه منه .

5- ولا بد مع سلامة النطق ومراعاة أحكام التجويد من التدبر والخشوع ، لأن الله تعالى يقول : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدَّبَّروا آياته وليتذكر أولوا الألباب  ( . وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية حتى أصبح يرددها. والآية: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (  [ أخرجه ابن ماجه والنسائي ] . وروى ابن عبد البر في [جامع العلم وفضله ] عن علي رضي الله عنه قال: ( ألا لا خير في عبادة ليس فيها فقه، ولا في علم ليس فيه تفهم، ولا في قراءة ليس فيها تدبر (

  ومعنى التدبر: النظر في أدبار الأمور، أي في عواقبها ومآلاتها، وهو قريب من التفكر، إلا أن التفكر تَصَرُّف القلب أو العقل بالنظر في الدليل، والتَّدَبُّر تَصَرُّفه بالنظر في العواقب .

فلا بد من أن نعايش القرآن بقلوبنا وعقولنا . هذا هو المهم ، فلا يليق أن نقرأ القرآن بألسنتنا وقلوبنا مشغولة . فهذا الكتاب يحتاج حقاً إلى ذهن متفتح ، وإلى عقل يقظان ، وإلى نفس زكية طهور بارئة من الغرض لأن الغرض مرض ، يجب أن يتحرر منه قارئ القرآن .

والقرآن الكريم هو المصباح المنير الذي ينير الطريق إلى الله ، والذي يعتمد في هذا كله على مخاطبة القلوب وهزّ المشاعر ، وأخذ الوجدانات إلى الله ، يملأها بخشية الله ويؤثر فيها ويرغبها فيما عند الله ، ويخوفها من عذاب الله ( اللهُ نَزَّل أحسنَ الحديث كتاباً متشابهاً مثانيَ تقشعرُ منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تَلينُ جُلُودُهُم وَقُلُوبُهُم إلى ذكر الله ( .

كتاب تقشعر له الأبدان وتطمئن له القلوب وتلين له الجلود ، ويؤثر في الأرواح والقلوب والضمائر حتى في المشركين .. سمعه الوليد بن المغيرة فعاد مدهوشاً ، وقال والله لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن .. وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو ولا يعلى عليه . [ تفسير القرطبي 10/165 ، وانظر الاستيعاب لابن عبد البر 1/433 وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء : إسناده جيد ]

ورحم الله محمد إقبال شاعر الإسلام في باكستان ، لقد كانت قراءته للقرآن تختلف عن قراءة الناس ولهذه القراءة الخاصة فضل كبير في تذوقه للقرآن ، وقد حكى قصته لقراءة القرآن ، فقال : " وقد كنت تعودت أن أقرأ القرآن بعد صلاة الصبح كل يوم ، وكان أبي يراني ، فيسألني : ماذا أصنع ؟ فأجيبه : أقرأ القرآن . وظل على ذلك ثلاث سنوات متتاليات ، يسألني سؤاله فأجيبه جوابي ، وذات يوم قلت له : ما بالك يا أبي تسألني نفس السؤال ؟ وأجيبك جواباً واحداً ، ثم لا يمنعك ذلك عن إعادة السؤال من غد ؟ فقال : إنما أردت أن أقول لك يا ولدي ، اقرأ القرآن كأنما أزل عليك ! ومنذ ذلك اليوم بدأت أتفهم القرآن وأقبل عليه ، فكان من أنواره ما اقتبست ومن درره ما نظمت " [ ديوان محمد إقبال 1/34]

ويعد البكاء عند تلاوة القرآن من آثار الخشوع ، وهو من شيم الصالحين ، لذ  يقول ربنا تبارك وتعالى:  (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً . ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً . ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً (  وقال جلّ شأنه: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ( .  وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:  ( إن هذا القرآن نزل بحزن؛ فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكو)  [الصحيحة 3327]. قال النووي رحمه الله : البكاء عند تلاوة القرآن صفة العارفين وشعار الصالحين  .  

6- العمل بالقرآن : إن القرآن لم ينزل ليقرأ على الأموات ، وإنما نزل منهاجاً للأحياء أفراداً وجماعات ، نزل ليكون دستوراً للدولة ونظاماً للحياة . لذا يجب أن يكون القرآن الكريم هو المرجعية العليا للأمة ، فإذا فعلوا ذلك وساروا وراءه ونفذوا أحكامه كانوا خير أمة حقاً كما أراد الله لهم .

 

 

اخبار ذات صلة