مقدمة
شهدت الضفة الغربية مؤخرًا موجة من العمليات الفدائية، التي بدأت تتسع وتتخذ أشكالًا أكثر احترافية وتنوعًا، ما ينذر بإمكانية اندلاع انتفاضة ثالثة تأخذ طابع الهبات الشعبية والعمليات المتقطعة، في ظل وجود كل عوامل الانفجار في الضفة، نتيجة لإجراءات الاحتلال، وانهيار عملية التسوية، وسطوة المستوطنين، ومخطط ضم أجزاء واسعة من الضفة.
ربطَ الاحتلالُ بين علميات المقاومة في الضفة الغربية وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في قطاع غزة، وقال إن ذلك يستند إلى معلومات استخبارية تؤكد أن قادة في "كتائب عز الدين القسام" في القطاع يقفون خلف توجيه عمليات المقاومة في الضفة، ويعززه إعلان "القسام" أن الشهيدين أشرف نعالوة، منفذ عملية "بركان"، وصالح البرغوثي الذي شارك في عملية إطلاق نار شرق رام الله، واللذين استشهدا في اشتباكين منفصلين مع قوات الاحتلال، ينتميان إلى الجناح العسكري لحماس.[1]
كما نقل رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو رسالة إلى حركة حماس، قائلًا: "إن لم يكن هناك هدوء في الضفة، فلن يكون في غزة"[2].
وبغض النظر عن ارتباط "حماس" بأحداث الضفة، فإن الأوضاع هناك تتجه نحو الانفجار بحسب تقدير نداف أرغمان، رئيس جهاز الشاباك الإسرائيلي، الذي أكد أن الهدوء الحالي مضلل ومخادع، فالضفة تشهد هدوء نسبيًا، لكن الوضع قد يتفجر في أي لحظة.[3]
تطرح المعطيات السابقة أسئلة مهمة حول مستقبل تفاهمات التهدئة في قطاع غزة، بعد تصاعد موجة العمليات في الضفة الغربية.
تسعى حركة حماس منذ سنوات لتحريك ساحة الضفة وتصعيد المقاومة فيها لأسباب عدة، أهمها، تخفيف الضغط عن غزة، وإضعاف خصمها السياسي هناك المتمثل في السلطة الفلسطينية، وتعزيز مكانة "حماس" في الضفة وإظهار وكأنها ما زالت تمتلك أدوات تقلب المعادلة في ساحة الضفة المهمة للضغط على الاحتلال والسلطة معًا.
ولكن أولوياتها تبقى المحافظة على تفاهمات التهدئة في غزة والتقدم فيها، كونها تعتبرها إنجازًا مهمًا بعد سنوات من الحصار الذي أنهك القطاع، كما يظهر من تصريحات قادة الحركة وأبرزها ما جاء في مقابلة يحيى السنوار، قائد "حماس" في غزة، التي نقلتها صحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية، إذ قال "لا نريد حربًا جديدة مع إسرائيل، نريد الهدوء المطلق وأن ينتهي الحصار".[4]
لذا، فإن أي تصعيد لعمليات المقاومة في الضفة سيكون محسوبًا ومدروسًا، وفي إطار تكتيكي كوسيلة ضغط على الاحتلال لدفعه للتقدم في مسار التهدئة في القطاع، وبما لا يفضي إلى انهيارها، أو شن حرب جديدة على القطاع، على غرار عدوان 2014 عقب عملية اختطاف المستوطنين الثلاثة في الخليل.
إستراتيجية الفصل
منذ العام 2002 على وجه الخصوص، تعمل إسرائيل وفق إستراتيجية واضحة، هدفها تكريس الفصل بين الضفة والقطاع، إذ عمل الاحتلال وفق أجندتين مختلفتين في كل منطقة.
ففي الوقت الذي اجتاح فيه الاحتلال في العام 2002 مدن الضفة بالكامل للقضاء على خلايا المقاومة، وتعزيز سيطرته الأمنية، إلى جانب تكثيف الاستيطان، كان يعد للانسحاب من قطاع غزة، وقد نُفذ الانسحاب أحادي الجانب من كل مستوطنات القطاع في العام 2005.
كما ساهم الانقسام الفلسطيني الذي وقع في حزيران 2007 في تقديم فرصة تاريخية للاحتلال لتعزيز مشروع الفصل.
لم يؤثر الجمود في "العملية السياسية" على طبيعة التعاون الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، فلم تتأثر الأوضاع في الضفة كثيرًا بالمتغيرات السياسية، لا سيما أن من مصلحة السلطة الحفاظُ على الوضع القائم. أما حركة حماس في القطاع فلا تتجه إلى المواجهة مع إسرائيل، بل تطمح إلى نقل المواجهات إلى الضفة.
شهد العام 2018 تطورًا لافتًا في عدد وطبيعة العمليات المؤثرة التي نفذت، سواء منظمة أو فردية أو موجهة، في الضفة، بما فيها القدس، كان من أبرزها: (50) عملية إطلاق نار، و(35) عملية طعن ومحاولة طعن، و(18) عملية دهس ومحاولة دهس، وعشرات العمليات تم فيها إلقاء أو زرع عبوات ناسفة، ومئات عمليات إلقاء زجاجات حارقة صوب آليات ومواقع الاحتلال العسكرية ومستوطنيه، وهي عمليات أدت إلى مقتل 14 إسرائيليًا، وجرح أكثر من 170 آخرين.[5]
غضب السلطة
شكلت العمليات الأخيرة ضربة لجهود السلطة الفلسطينية وقبضتها الأمنية، ومع أن العمليات في الضفة تتصاعد وتخبو منذ العام 2014، إلا أن الأخيرة كانت الأقوى من حيث التخطيط والتنفيذ والنتائج والقدرة على التخفي، ومن حيث ردة فعل الاحتلال عليها، التي أضرت بالسلطة بصورة كبيرة.
تخشى السلطة على مكانتها، فعمليات قوات الاحتلال داخل مدن الضفة وقراها تلحق الضرر بمكانتها، وتهدف إلى تكريس دورها كسلطة حكم ذاتي فقط هذات من جانب. ومن جانب آخر تقوي "حماس" والمقاومة في أعين سكان الضفة، رغم أن جزء من العمليات التي نفذت خلال السنوات السابقة، خاصة في موجة العمليات التي جرت ما بعد العام 2015، كانت فردية ونفذها فلسطينيون غير منتمين لفصائل.
وقد ترجم الرئيس محمود عباس غضب السلطة حينما حمل إسرائيل وحركة حماس المسؤولية عن زعزعة الأمن في الأراضي الفلسطينية، قائلًا إن نتنياهو شخصيًا يحول الأموال إلى حركة حماس التي تشتري بها سلاحًا، ويدفع الفلسطينيون في الضفة ثمن استخدام هذا السلاح[6]، إذ وضع الرئيس "حماس "وإسرائيل في خانة واحدة، فهو يرى أنهما تهدفان إلى تقويض السلطة وفرض حلول للقضية، بما يلبي طموحات "حماس" وإسرائيل فقط.
موقف حماس
عكست العمليات الأخيرة سلم الأولويات الذي تعتمده "حماس" في الفترة الراهنة، وهو تصعيد محسوب في الضفة بما لا يؤثر على حالة الهدوء وتفاهمات التهدئة في القطاع. كما أن نجاح مقاومين من "حماس" في تنفيذ عمليات في رام الله، أدى إلى شن قوات الاحتلال اقتحامات عسكرية بجوار مراكز الحكم الفلسطينية، ما يمثل هدفًا مهمًا بالنسبة إلى "حماس" في إطار سعيها لإضعاف حكم السلطة ضمن صراع الشرعيات الذي تشهده الحالة الفلسطينية.
في أعقاب الجولة الأخيرة من العمليات، وجولة التصعيد الأخيرة مع "حماس" بغزة، لوحظ تآكل في قوة الردع الإسرائيلية، بعد أن ظهرت إسرائيل كأنها رضخت لشروط "حماس".
كما فُهمت التسهيلات التي مُنحت لغزة مؤخرًا على أنها قبول إسرائيلي ضمني بسلطة "حماس" في غزة، وهذا في موازاة الطريق المسدود الذي وصلت إليه إسرائيل مع السلطة الفلسطينية على المستوى السياسي، وهو ما يزيد من ضعفها ويفتت مكانتها وشرعيتها الشعبية التي تتعرض لنقد واسع أصلًا.
تسعى حماس من خلال تبنيها الشهيدين البرغوثي ونعالوة، إلى التأكيد بأن خيار المقاومة في الضفة قائم ويتصاعد رغم كل القيود المفروضة على الحركة، كما أن بياناتها التي تدعو إلى تصعيد الوضع في الضفة تعكس رؤيتها، فهي تفضل أن تتدحرج كرة اللهب من القطاع إلى الضفة.
ورغم أن المعادلة هنا تبدو صعبة وتحمل مخاطرة كبيرة، لكن لا يمكن تجاهل توظيفها تكتيكيًا للضغط على الاحتلال لتحسين شروط التهدئة وتعزيز مكانة "حماس" كلاعب مهم ليس في قطاع غزة فقط، بل في الضفة الغربية أيضًا.
بحسب مصدر كبير في "حماس"، فإن إسرائيل لم ترسل عبر الوسطاء أي رسائل تهدد فيها بوقف اتفاق التهدئة كرد على عمليات الضفة. وأكد المصدر أن التفاهمات التي جرت لم تربط بين المقاومة في الضفة والاتفاق في قطاع غزة، وهو أمر مرفوض لدى "حماس"، لكن الاحتلال يربط كل شيء بعيدًا عن التفاهمات وبمجرد تنفيذ العمليات في الضفة بدأ يصعد في القطاع ويتلكأ في تنفيذ الاتفاق. وأضاف بأن التراجع عن تنفيذ تفاهمات التهدئة له علاقة مباشرة بالانتخابات الإسرائيلية والمزايدة السياسية التي يخضع لها نتنياهو، فهو يريد أن يمرر هذه الفترة بما يضمن له الفوز في الانتخابات.[7]
رغم ذلك، فإن "حماس" تلقت تلك الرسائل عبر وسائل الإعلام، ولمستها بشكل مباشر عبر التصعيد المقصود، خاصة في الجمعة التي تلت العمليات، إذ تعمد الاحتلال التصعيد وقتل أربعة فلسطينيين بما يوازي عدد من قتلوا نتيجة عمليات الضفة، بالإضافة إلى تأجيل إدخال المنحة القطرية المخصصة لمحطة توليد الكهرباء ورواتب موظفي "حماس" في غزة لمدة ثلاثة أسابيع قبل أن توافق على إدخالها بتاريخ 20/1/2019.[8]
موقف إسرائيل
يشهد اتفاق التهدئة في غزة تراجعًا ملحوظًا نتيجة مماطلة الاحتلال الإسرائيلي في تنفيذ بنوده، إذ كان من المفترض أن يدخل الاتفاق المرحلة الثانية منذ أشهر عدة، بعد تنفيذ المرحلة الأولى التي تقضي بإدخال المنحة القطرية المتمثلة بالوقود المخصص لمحطة توليد الكهرباء وقيمتها 10 مليون دولار شهريًا، والأموال المخصصة لرواتب موظفي الحكومة في غزة وقيمتها 15 مليون دولار شهريًا.
وقد عرقل الاحتلال إدخال المنحة القطرية ويماطل في الانتقال إلى لمرحلة الثانية من التفاهمات، وهو تراجع يخضع لعاملين أساسيين:
الأول: تصاعد عمليات المقاومة في الضفة، التي أغضبت الاحتلال وجعلته يمارس ضغوط كبيرة على "حماس".
الثاني: الانتخابات الإسرائيلية، حيث يتعرض نتنياهو لضغوط وانتقادات حادة نتيجة سياساته تجاه غزة وتفاهمات التهدئة مع "حماس".
وقد اختار نتنياهو العمل على تهدئة قادة اليمين من خلال المماطلة في تنفيذ تفاهمات التهدئة، وليس شنّ عمل عسكري ضد "حماس"، لكن هذه الإجراءات قد تفضي في النهاية إلى إشعال مواجهة مع الحركة يصعب التحكم بمآلاتها. فتدهور الأوضاع الاقتصادية في غزة لن يسمح لقيادة "حماس" باستيعاب أي إجراء إسرائيلي يفاقم هذه الأوضاع سوءًا، مما سيدفعها نحو تأجيج نشاطات حراك "مسيرات العودة وكسر الحصار"، التي تعدها إسرائيل ذات مضامين "عنفية"، مثل إطلاق الطائرات والبالونات الحارقة واجتياز الحدود وغيرها، وهو ما يوفر بيئة للتصعيد بين الطرفين، كما حدث أكثر من مرة.
من هنا، فإن نتنياهو، كوزير للأمن، قد يركز على استخدام الوسائل الاستخبارية والأمنية من أجل تحييد خلايا "حماس" العاملة في الضفة، التي ينسب إليها العمليات الأخيرة، آملًا أن ينجح في ضبط الأمور حتى لا يكون مضطرًا لخوض غمار مواجهة مع "حماس" في قطاع غزة.
وفي سياق متصل، أفاد موقع "ماكو" العبري بأن السلطة الفلسطينية وغاري كوهينم، السفير الإسرائيلي في موسكو ضغطا على روسيا لعدم استقبال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الذي كان من المفترض أن يزور روسيا منتصف كانون الثاني 2019، لكن الزيارة أجلت إلى نيسان 2019.
كما التقى إسحاق هرتسوغ، رئيس الوكالة اليهودية، بسيرجي لافروف، وزير الخارجية الروسي، حيث قال الأخير إن "الدعوة جاءت لمنع تدهور الأوضاع في غزة أكثر فأكثر"، وبعث هرتسوغ رسالة إلى هنية عبر لافروف مفادها أنه "ليس بوسعه إمساك العصا بكلا الجانبين، أي أن تجري تسوية في قطاتع غزة من جهة، ومن جهة أخرى تُنفذ عمليات في الضفة الغربية".[9]
وقد نقلت مصادر مصرية مطلعة أن نتنياهو، طالب المسؤولين في مصر، بنقل مجموعة من الرسائل إلى الفصائل الفلسطينية في غزة، وعلى رأسها حركة "حماس، بضرورة التشديد على عدم التصعيد خلال الفترة المقبلة، التي تعد شديدة الحساسية بالنسبة لنتنياهو، الذي يرغب بشكل قوي في تمرير اتفاق الهدنة طويلة الأمد.
وأشارت المصادر المصرية إلى أن الرسائل الإسرائيلية إلى "حماس" أكدت على الربط بين الهدوء في القطاع والضفة معًا.[10] والربط بين حالة الهدوء في الضفة والقطاع هو نتيجة للعمليات الأخيرة، لكن تبقى خيارات نتنياهو في كل ما يتعلّق بالضفة محدودة للغاية، كي لا يحرق كليًا ما تبقى من تنسيق أمني مع السلطة، ولئلا يشعل جبهة خطيرة، لذا فإن أي تصعيد في الضفة، تحديدًا قبل الانتخابات سيدفع، ثمنه القطاع، سواء عبر التراجع أكثر عن الاتفاق وتشديد الحصار، أو من خلال التصعيد الميداني.
خاتمة
ما زالت "حماس" ترى أن ساحتها الأولى والأهم هي قطاع غزة، وتضع تفاهمات التهدئة على رأس أولوياتها، لذا فإن كل التحركات التي تقوم بها سواء في القطاع من خلال مسيرات العودة، أو في الضفة عبر العمليات التي تنفذها أحيانًا تأتي ضمن هذه الرؤية.
تحقق عمليات الضفة لحركة حماس أهدافًا عدة، من بينها التخفيف عن قطاع غزة المحاصر، وإضعاف خصمها السياسي "السلطة الفلسطينية"، والمحافظة على صورتها كحركة مقاومة.
ولكن الحركة توازن الأمور بميزان حساس جدًا، كونها تدرك أن الاحتلال لن يقبل بالاستمرار في اتفاق التهدئة وهو يرى الحركة تصعد من عملياتها ضده في الضفة، وأن تصعيدًا كبيرًا في الضفة سينتهي بضربة شاملة في قطاع غزة على غرار ما جرى في العام 2014، لذا فهي حريصة على ألا تتطور الأمور بهذا الاتجاه.
في المقابل، يرغب نتنياهو بشدة المحافظة على الهدوء، خصوصًا وهو مقبل على انتخابات في نيسان 2019، وقد يصبح في حال فوزه صاحب أطول مدة رئاسة وزراء لدولة الاحتلال، وهو يدرك بأن أي تغيير جوهري على الوضع في الضفة قد يقلب الموازين، ويقود إلى فتح جبهة غزة الآن. لذا من المرجح أنه سيواصل الضغط على "حماس" في غزة عبر تفاهمات التهدئة، كما جرى من خلال تأجيل الدفعة الثالثة من المنحة القطرية لأسابيع عدة، لكن بما يضمن ألا تخرج الأوضاع عن السيطرة أو تتجه نحو الانفجار.