الشرطة: حالات التحرش داخل الأسرة فردية ولا يمكن تعميمها كظاهرة
قبل ما يقارب العشر سنوات كان "بيت الأمان" الملاذ الأول لأي زوجة مغتربة حينما تتلقى أنواع العنف الزوجي فتطرق الباب وتجد من يستقبلها ويخفف عنها ويساهم في حل مشكلتها حتى تصل ذووها في الخارج أو العودة لزوجها بعد الصلح والتعهد بعدم التعدي عليها.
اليوم، وفي ظل الضغط الاجتماعي وظهور بعض المشكلات التي تطفو على السطح، أصبح بيت الأمان التابع لوزارة التنمية الاجتماعية أيضا ملاذا لفتيات صغيرات تعرضن للعنف الجنسي والجسدي من الأسرة، أو لسيدات ترفض أسرهن استقبالهن عند وقوع مشكلة مع الزوجة بحجة "استري حالك وروحي لجوزك".
حكايات كثيرة علمت بها "الرسالة نت " قبل دخولها بيت الأمان لتنصت لقصص واقعية موجعة دفعتها الظروف لطرق هذه المؤسسة، حيث الجو الأسرى الذي تحاول أن توفره العاملات للنزيلات فيه.
البداية كانت لفتاة لم تتجاوز الخامسة عشرة تدعى "لمياء" - اسم مستعار-، لم تستطع التركيز في دروسها، وباتت عدوانية تجاه زميلاتها، فالوضع في بيتها لم يعد يطاق كما ترى، حتى قررت أخيرا الكشف عن معاناتها للمرشدة التربوية في مدرستها لتبوح لها بما يفعله والدها.
كان والد "لمياء" يحاول التقرب منها بطريقة تنافي الشريعة الإسلامية والعادات التي تحكم المجتمع الغزي، ويتحرش بها، حاولت إخبار والدتها لكن الأخيرة صدتها كثيرا ووبختها كيف تتجرأ بالتفوه بتلك الكلمات عن والدها، رغم أن أمها ترى زوجها متعاطي المخدرات وهي يحاول الاقتراب من ابنته.
حينما أخبرت الفتاة معلمتها، وجهتها إلى الجهات المختصة لتحول بعد ذلك إلى بيت الأمان حتى إيجاد الحل المناسب والعودة لبيتها، وبعد إتمام الإجراءات ومضي بضعة أيام عادت، ووقتئذ تعهد شقيقها باحتوائها في بيته، ومحاولة توفير بيئة آمنة لها.
مديرة بيت الأمان: لا نستقبل "خريجة السجون" أو مدمنة المخدرات
حالات أخرى لفتيات لجأن لبيت الأمان كمأوى يحميهن من ذويهن لأسباب كثيرة ليست فقط من التحرش الجنسي مثل حرمانهن الزواج لخدمة ذويهن أو طمعا بوظيفتهن.
هنا حكاية "سامية" - اسم مستعار- خريجة جامعية وصل بها العمر إلى منتصف الثلاثينيات، وتقدم شاب لخطبتها لكن ذويها رفضوا ذلك رغم إمكانياته المادية الجيدة وسيرته الحسنة بين الناس.
حاولت "سامية " كثيرا إقناع ذويها بالعريس خاصة أن قطار العمر يمر بها سريعا وتريد تكوين عائلة وإنجاب أطفال ليكونوا سندا لها، لكنها في كل مرة كانت تقابل بالضرب المبرح من أشقائها لدرجة أنها لم تقو على الحركة عدة أيام.
بعدما عجزت الثلاثينية عن إقناع ذويها خرجت إلى الشرطة لتشكو رفض ذويها الزواج، ولأن ظروف العائلة توترت أكثر حُولت إلى "بيت الأمان"، لتلقي الدعم النفسي وكذلك خشية أن تتعرض للاعتداء مرة أخرى.
حجة أشقاء "سامية" رفضهم زواجها أن من تقدم لها سيئ السمعة، كانت مغايرة للواقع، فهم يريدون بقاءها لتخدم والديها المسنين، وكذلك طمعا في راتبها الشهري فهي تصرف عليهم كونهم عاطلين عن العمل.
بعد إيوائها في بيت الأمان، رفعت قضية "عضل الولي" ليزوجها القاضي بوجود ثلاثة رجال عدول "إصلاح" يضمنون أخلاق الشاب، وتم لها ذلك بسبب عدم قبول أشقائها الزواج، وبعد المتابعة وتقريب وجهات النظر تصالحت مع عائلتها.
لا نقبل "خريجات السجون"
قصدت "الرسالة" بيت الأمان للتعرف على طبيعة الحالات الموجودة، والخدمة التي تقدم لهن في ظل الظروف المعيشية والاجتماعية التي يعيشها قطاع غزة، والتي فرضت مشاكل متنوعة جعلت النسيج الاجتماعي على شفا الانهيار.
رزمة من الملفات التي كانت تقلبها هنادي سكيك مدير بيت الأمان بغزة، فكل ملف حكاية لنزيلة كانت ضحية عنف أسري، توقفت قليلا لتؤكد أن البيت مفتوح لجميع الفتيات والنساء المعنفات، موضحة أن غالبية من يلجأن للبيت عبر الشرطة ورجال الإصلاح أو المؤسسات الحقوقية أو يحولن من المرشدة التربوية في المدرسة.
وبحسب سكيك فإن أغلب حالات العنف التي تراها نتيجة الإهمال العاطفي وعدم التفاهم في طبيعة الحوار داخل الأسرة، عدا عن محاولة الزوج أو الأهل الاستيلاء على راتب الزوجة أو ميراثها.
ووفق قولها، فإن هناك الكثير من الحالات التي تأتي إلى بيت الأمان أيضا لأخذ المشورة، خاصة اللواتي يتعرضن للعنف فيتم تحويلهن للأخصائيات، وبعض الحالات التي يكون هناك خطورة على حياتها تبقى في البيت حتى خروجها والتأمين عليها لكن بعلم عائلتها.
وتحدث سكيك عن ردة فعل الأهل عند علمهم بوجودها داخل بيت الأمان، أنهم في البداية يستنكرون وتحدث مشادات كلامية لكن العاملات في البيت يحاولن استيعاب ذلك للوصول إلى حل.
وتقول مديرة البيت أن أي سيدة أو فتاة لابد أن تخضع لفحص نفسي، قبل الموافقة على قبولها في بيت الأمان، فقد يكون ما ذكرته مجرد هلاوس أو لأغراض معينة تضمرها، وفي حال التأكد من صحة أقوالهن يتم عمل اجراءات الأمان والحماية لها في المؤسسة حتى خروجها.
وعن الفتيات اللواتي يأتين للبيت هربا من التحرش داخل العائلة، ذكرت سكيك أن العام الماضي شهد ما يقارب الأربع حالات وانتهت القضية في مضمون اجتماعي قوي، مؤكدا أن عدد الحالات التي تأتي كل عام لا تشير إلى أن التحرش داخل العائلة ظاهرة بل حالات فردية.
وروت موقفا حصل لفتاة جاءت هاربة من شقيقها مشتكية من أنه "يتحرش بها"، لكن بعد التحقيق وعمل الاختبار النفسي لها تبين أن والدها من يفعل ذلك، وذلك بدافع من والدتها حتى لا يفضح أمر العائلة، لكن بعد تدخل الجهات المختصة والإرشاد الاجتماعي والنفسي حلت القضية.
وأكدت أن البيت الذي أسس في يونيو 2011، يستقبل من 30- 50 حالة شهريا ما بين استشارة وايواء وقد يزداد العدد، مبينة أن فترة البقاء مرهونة بحل المشكلة فقد تمتد إلى ستة شهور، حيث أنه في الوقت الحالي تتواجد 18 حالة مع طفلين من أبناء المعنفات.
اخصائية نفسية: نستخدم العلاج بالفن لتفريغ الكبت النفسي بدلا من التفكير في المشكلة
ولفتت سكيك إلى أن هناك حقوقا وواجبات للسيدة أو الفتاة عند اقامتها تطلع عليها، منها الالتزام بالقوانين والسرية واحترام العاملات والنزيلات، وأنه في حالة الطوارئ يتم الاخلاء، وكذلك ألا تشترط عند حل مشكلتها أمورا يرفضها القانون كأن تقول "أريد الصلح مع زوجي بشرط ألا يتزوج امرأة أخرى".
ويتردد أن بيت الأمان يحتوي على سيدات وفتيات ألقي القبض عليهم في جرائم جنائية، وهنا نفت سكيك ذلك وقالت: "نرفض استقبال "خريجة السجون" على خلفية القتل أو الزنا وكذلك مدمنة المخدرات، لكن هناك حالات أخرى تأتي بعد خروجها، مؤكدة أن قبول أي حالة يجب أن يكون بشرط عدم تشكيلها خطرا على النزيلات.
وأرجعت سبب حوادث العنفي الجنسي والجسدي الذي يقع على الفتاة أو المتزوجة إلى قلة الوازع الديني، ووقت الفراغ والبطالة، فنجد مثلا الأب أو الأخ لا يعمل ويجلس طيلة الوقت في البيت فيحاول الإقبال على أمور غير مقبولة دينيا وعرفيا.
كوابيس ليلية وصراخ
ولأن بيت الأمان أصبح ملجأ المعنفات زوجيا ولديهن عائلات لكنهم يرفضون استقبال بناتهن بحجة "بيت جوزك استر لك"، وقعت هذه الحادثة للعشرينية "سمية" - اسم مستعار- أم لطفلين، بعد أن طفح الكيل بها بسبب تعذيب زوجها والسخرية منها، حاولت كثيرا معه لكن دون جدوى.
أخبرت "سمية" عائلتها بما يحدث معها لكن الجواب كان مختصرا "فش عنا حردانات، جوزك يعمل ايش اللي بدو اياه".
حاولت كثيرا حتى وصلت إلى "بيت الأمان" لتحكي قصتها، فمن شدة الضرب المبرح الذي تتلقاه من زوجها تحدث لها تشنجات تجعلها لا تقوى على الحركة، فالمشهد لا يلين قلب زوجها بل يسخر منها ويأتي بوالدته وشقيقاته ليضحكن عليها وهي ترتعش ويعلق "شوفوا مرتي كيف بتعمل؟!".
تلقت الدعم النفسي المناسب، وتواصلت مع ذويها لسماعها حتى أخذوها إلى البيت لاحتوائها من جديد، وقرروا تطليقها كون الصلح مع زوجها صعبا، فهو متعاط للمخدرات ولا يصلح ليقود عائلته.
عن العلاج النفسي الذي يقدم لنزيلات بيت الأمان تحدثت سهاد قنيطة الاختصاصية النفسية لـ "الرسالة"، أن الحالات التي تأتي تحول من مرشدة المدرسة أو الشرطة، وبمجرد طرق الباب يكسر حاجز الخوف مما يساهم في حل مشكلتها، لافتة إلى أن غالبية الحالات تكون في حالة انهيار ولديها مشاعر تتعلق بالألم وشعور بالأسى كونها وصلت لمرحلة طلب المساعدة من آخرين غير الأهل.
وذكرت قنيطة أن بداية التعامل مع الحالة تكون من خلال توفير الجو النفسي لمساعدتها، وبناء الثقة مع الاختصاصية، موضحة أنه بمجرد توفير الثقة تبدأ السيدة أو الفتاة بالبوح عما بداخلها.
وعن طبيعة الفتاة التي يكون أحد أفراد أسرتها معتديا عليها، تصف وضعها النفسي بفقدها الثقة بالآخرين وتعتريها نظرة الخوف من أي شخص ينظر إليها نتيجة الخبرة السلبية التي تكونت لديها، مشيرة إلى أنها تعاني من كوابيس ليلية وصراخ كونها تريد التعبير عن الطاقة الموجودة داخلها.
وحول الخطة العلاجية التي تتبعها عند التعامل مع أي معنفة تقول قنيطة: "بعد استقبال الحالة تصنف وبناء عليه نعمل وفق خطة علاجية نفسية عبر جلسات الاسترخاء (..) وهناك حالات يتم مساعدتها عبر العلاج بالفن من خلال تعليمها لبعض الفنون كالرسم والتطريز فتفرغ الكبت النفسي لديها عبر تنمية بعض الهوايات بدلا من التفكير في مشكلتها.
وأضافت:" نتواصل مع الأهالي ونجلس معهم، في البداية لا يتقبلون لكن نحاول التوصل لحل بدلا من إثارة المشكلة"، لافتة إلى أنه في السابق كانت نظرة المجتمع لبيت الأمان سلبية لكن الواقع جعلها مختلفة وباتت للأفضل بعدما وصلت الرسالة بأن المكان لا يحرض الفتيات ضد ذويهن بل نعمل "يدا بيد".
وأكدت قنيطة أن السيدة المتزوجة حينما تأتي للبيت تكون استنزفت الحلول كافة مع زوجها وذويها لإصلاح الأمر بينهما، مبينة أن أكثر الكلمات التي تسمعها المرأة من الأهل وتدفعها للمجيء: "معلش تحملي زوجك معصب (..) هاد نصيبك مش كل يوم حتتزوجي، فتلك الكلمات تكسرهن وتشعرهن بالوحدة والضعف أكثر.
وبينت أنها في بعض الحالات تتبع نظام الارشاد الجمعي حيث تشعر السيدة المعنفة أن هناك من يعاني مثلها وأكثر، الأمر الذي يهون عليها لاسيما من خلال ذكر بعض النماذج التي استطاعت الوقوف من جديد ووصلت إلى بر الأمان.
حالات فردية وليست ظاهرة
خلال أيام المنخفض الذي شهده قطاع غزة قبل أيام ليلا، وجدت الشرطة سيدة تجلس تحت شجرة تقي نفسها وطفلها المطر، في حالة يرثى لها فلا تحمل المال، فقط ترتدي عباءتها وبين يديها صغيرها يرتعش بردا.
كان المشهد ملفتا لرجال الشرطة، فاقتربوا منها ليتبين أن زوجها طردها من البيت وبحجة "مزاجه كده"، فهي ليست المرة الأولى التي تطرد في الشتاء، فقد سبق وفعل ذلك دون أن يرحمها وصغيره.
وعن مبررها لعدم ذهابها إلى ذويها أخبرت رجال الشرطة أنهم يرفضون استقبالها وعليها أن تتحمل زوجها، فلا مكان "للحردانات" عندهم، فوضعوها في بيت الأمان.
التقت "الرسالة" العقيد رائد العامودي مدير دائرة ديوان المظالم وحقوق الانسان في الشرطة، حيث أكد أن دائرته تتلقى الشكاوى من المعنفات أو الفتيات اللواتي يتعرضن لعنف داخل أسرهن، لافتا إلى أن كل حالة لها سريتها لذا قبل اتخاذ أي قرار قانوني يتم التواصل مع العائلة لتقريب وجهات النظر للمحافظة على النسيج الاجتماعي.
ويشير العامودي إلى أنه قبل اتخاذ أي قرار مع المعنفة هناك إجراءات وتقارير طبية، لاسيما وأن هناك قضايا كيدية لا أساس لها من الصحة، لافتا في الوقت ذاته إلى أن الحالات التي تشعر الشرطة فيها بالقلق على السيدة تحولها إلى بيت الأمان.
اخصائية نفسية: نستخدم العلاج بالفن لتفريغ الكبت النفسي بدلا من التفكير في المشكلة
وأكد أن الحالات التي تأتي لتشتكي على الأهل يتم التعامل معها بحساسية ودرجة عالية من الاجراءات لاسيما لو كانت تحرشا جنسيا أو أذى بليغا، حيث حولت الشرطة العام الماضي ما يقارب الأربعة حالات تعرضت للتحرش الجنسي داخل العائلة.
وبحسب متابعة العامودي فإن الوضع الاقتصادي ساهم في وجود حالات من التحرش الجنسي داخل الأسرة الواحدة رغم أنها دخيلة على عادات وأعراف مجتمعنا المحافظ، مما أثر على نفسية المواطنين، فتجد رب الأسرة عاطلا عن العمل يتحرش بابنته، مؤكدا في الوقت ذاته أن حالات التحرش داخل الأسرة فردية ولا يمكن تعميمها كظاهرة.
ونوه إلى أنه ليس من الضروري أن تكون كل شكوى صادقة، فهناك حالات تدعي التحرش فقط بسبب مرضها النفسي أو للفت الانتباه بسبب الإهمال داخل الأسرة، وقد تكون عملية انتقام من الأب أو الأخ أو الزوج نتيجة حرمان الفتاة من المال أو تعذيبها جسديا.
ودعا العامودي المؤسسات النسوية والمجتمع المدني بزيادة عملية التوعية عبر برامج واستهداف أكثر للنساء، وتكون وجهتهم الجامعات ومدارس الثانوية العامة للحد من ظاهرة العنف والتغلب على المشاكل.
لم نكشف الكثير من حالات العنف التي تتعرض لها النساء في قطاع غزة، فلازال هناك الكثير من الحكايا التي اَثرت الضحية أن تبقيها حبيسة صدرها دون البوح بها أو اللجوء إلى بيت الأمان، لذا لابد من توقف المعنفات عن الصمت، بالتحدث إلى الجهات المختصة عن معاناتهن قبل أن تتفاقم وتصل الضحية إلى نهاية لا يحمد عقباها.