داخل أروقة متحف باردو التاريخي -الذي يعتبر المتحف الثاني في القارة الأفريقية من حيث ثراء مجموعاته- أقيم معرض يعود بالذكرى إلى مواجهات الأمن والمحتجين التونسيين في عام 2011.
ويضم المعرض صورا ومقاطع فيديو ورسوم كاريكاتير ووثائق رقمية جمعتها منظمات غير حكومية ومؤسسات لأحداث ثورة الياسمين 2011، وصولا إلى الإطاحة بنظام الرئيس زين العابدين بن علي.
ويمكن لزائر المعرض أن يسمع خلال تجوله فيه شعارات الثورة وهتافاتها تنبعث من مكبرات للصوت.
وأطلق على المعرض اسم "أربعطاش غير درج، أوان تونس" (عبارة بالعامية تشير إلى اللحظات الأخيرة قبل يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011، التاريخ الذي فر فيه بن علي من تونس).
ودشن المعرض في 14 يناير/كانون الأول، ويتواصل إلى نهاية مارس/آذار، وكل المواد المعروضة فيه بالعربية ومترجمة إلى الفرنسية والإنجليزية.
ويقع متحف باردو في مدينة باردو القريبة من تونس العاصمة، ويتتبع تاريخ تونس بدءا من الحضارات القديمة، ويضم مجموعة واسعة من القطع الأثرية العريقة، ومنها واحدة من أرقى وأكبر مجموعات الفسيفساء الرومانية في العالم.
ذاكرة الثورة
ويقول حسن الطاهري (22 عاما) -وهو طالب جامعي- لوكالة فرانس برس متذكرا ثورة 2011 التي أطاحت بنظام متسلط "حينها كنت صغيرا، لا أتذكر الكثير، من خلال هذا المعرض تتضح لي أمور كثيرة".
ويتابع "استعدت ذكريات يومي 12 و13 يناير/كانون الثاني، أتذكر أننا لم نكن ندرك ماذا سيحدث بعد هروب بن علي".
ويقول القائمون على المعرض إنه "يتوجه نحو العالم ليخاطب العالم"، وقد انطلق بمبادرة من منظمات المجتمع المدني ومشاركة مؤسسات الأرشيف والتوثيق الوطنية منذ أربع سنوات.
ويرتكز التصور الفني للمعرض على رسم مخطط زمني لـ29 يوما بين 17 ديسمبر/كانون الأول و14 يناير/كانون الثاني 2011.
ويمتد المعرض على مساحة نحو 350 مترا مربعا تتناول أهم "12 لحظة تاريخية"، أي 12 حدثا شهدتها العاصمة وعدد من الولايات الداخلية، مثل سيدي بوزيد (وسط) والقصرين (غرب) وصفاقس (شرق)، من تصاعد للاحتجاجات في الشوارع بشعار يصدح في كل ركن "بن علي مجرم".
كما يتضمن المعرض نبذة عن أحداث حصلت خلال حكم الرئيس السابق الحبيب بورقيبة (1957-1987)، بالإضافة إلى أخرى وقعت خلال حكم بن علي (1987-2011).
وتتصدر صورة الرمز محمد طارق البوعزيزي إحدى الواجهات في المعرض، مرفقة بسرد لسيرته الذاتية في بضعة أسطر، وتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 حين أضرم النار في جسده، بالإضافة إلى صور عربة الغلال التي كانت تشكل مورد رزقه الوحيد.
درس تاريخي
وتتوسط المعرض غرف على شكل مكعبات من الخشب وصناديق الأرشيف، وفي كل غرفة يمكن للزائر أن يشاهد عبر شاشة تلفاز أبرز اللحظات التي رصدتها كاميرات الهواتف الذكية بعين المشاركين في مظاهرات جمعتهم الصدفة بلحظة فاصلة في تاريخ تونس المعاصر قبل ثمانية أعوام.
صور لحشود من المتظاهرين في شارع الحبيب بورقيبة تهتف "بن علي، ارحل"، وفيديو المحامي الناصر العويني صارخا "بن علي هرب"، ومقاطع صوتية في ركن آخر من المعرض تخرج منها أصوات المتظاهرين منادية "خبز وماء، وبن علي لا"، يقطعها دوي قنابل الغاز المدمع تطلقها الشرطة لتفريقهم.
لم تكن عملية البحث وجمع المادة سهلة بالنسبة إلى المؤرخين والمختصين في الأرشيف الذين عملوا عليها، إذ كان لزاما عليهم اعتماد منهجية علمية للتدقيق والتثبت من كل ما نشر، ومن أصحاب هذه المواد.
ويقول مدير المشروع الهاشمي بن فرج إنه وعناصر فريق العمل حاولوا البحث عن أصحاب هذه الوثائق من خلال توزيع استمارات بحث تتضمن جملة من الأسئلة.
فمثلا "مقطع فيديو البوعزيزي وهو يحرق نفسه لم يبث في القنوات التلفزيونية كاملا، وقد ذهبنا وقابلنا صاحبه وطرحنا عليه جملة من الأسئلة لنتمكن من الحصول على الفيديو برمته".
وتقول العضوة في لجنة التنظيم والإعداد للمعرض المؤرخة قمر بن دانا "هناك تحد تقني وعلمي ومنهجي في البحث وتدقيق المادة الرقمية التي نشرها من قام بالثورة وتجاوز الرقابة التي فرضها بن علي".
وتتابع المؤرخة أن التحدي التقني كان أولوية، مضيفة "مقاربتنا يجب أن تكون موثوقة، إذ إن عملية جمع المعلومات وتصنيفها تمت وفقا لمعايير علمية، لنتمكن مستقبلا من كتابة التاريخ استنادا إلى هذا الأرشيف".
وعند الانطلاق في جمع الصور ومقاطع الفيديو لاحظ عناصر فريق العمل أن من أهم التحديات التي تواجهه فقدان الكثير من المادة التي كانت منشورة في الإنترنت، إضافة إلى أنهم لم يعتادوا التعامل مع الأرشيف الرقمي، وفقا لبن دانا التي تشدد على أن فريق العمل "لا يسعى لكتابة رواية رسمية للتاريخ".
وتتابع "نحن هنا من أجل كتابة تاريخ يهم الشباب، هي محاولة للمصالحة بين الذاكرة والتاريخ".
وتشير أستاذة للتاريخ المعاصر في الجامعة التونسية إلى أن "المعرض درس مفتوح في التاريخ، ومفتوح للناس لسرد هذا التاريخ الذي شاركوا فيه".
نلنا الحرية ولكن
وعلى الرغم من النجاح الذي حققته تونس في مسارها الانتقالي نحو الديمقراطية فإن الطالب الجامعي حسن لا يبدو مطمئنا لمسار الثورة التونسية، خصوصا في ما يتعلق بالأهداف التي قامت من أجلها، وفي مقدمتها ملف البطالة.
ولا يزال الوضع الاقتصادي يشكل عبئا على السلطات الحالية، فمدن الداخل تطالب بالتنمية وبتوزيع عادل للثروات، وتفوق نسبة البطالة فيها بضعفين النسبة الوطنية للبطالة البالغة 15.5%، وتشمل خصوصا خريجي الجامعات.
وفي هذا السياق، يقول حسن "صحيح أننا نلنا الحرية، لكن يخنقنا ما نشاهده اليوم من وضع اقتصادي".
أما الطالبة هبة الجبالي (21 عاما) فتقول بعد مشاهدتها مقاطع فيديو بشأن ما ستؤول إليه الأوضاع مستقبلا وبنظرة يغلب عليها الشك "حبذا لو كل ما يوجد في الصور يتحقق اليوم في الواقع"، مضيفة "مهم أن يفهم الشباب ماذا حدث بالتحديد لأنهم عماد الغد".
المصدر: الفرنسية