استيقظتُ فزعًا على آياتٍ من القرآن الكريم تصدح بها مئذنةُ المسجد. كان من المعتاد يومَ الجمعة تذكيرُ أهل القرية بموعد الخطبة، ولكنّ الوقت كان لا يزال باكرًا. أيعقل أنّ جدّي أخطأ في التوقيت وهو مَن يحدّد المواقيت بفطرته؟ لا... لا بدّ من أنّ أحدًا استغلّ غيابَه الأسبوعيّ في السوق وشغّل المذياعَ قبل حينه.
نزلتُ بتثاقلٍ أتحسّس موقعَ أقدامي، وجفناي يقاومان خيوطَ الضوء التي تلسعهما بشدّة. فجأةً، مزّق نواحُ النسوة أذنَيّ، فعرفتُ أنّ ضيفًا ثقيلًا قد حلّ على القرية، ولكنّه كان أقربَ ممّا توقّعتُ: جدّي لم يذهب إلى السوق لجلب دجاجة كالعادة. جدّي مات!
يا إلهي. متّى سوف نتذوّق الدجاجَ مرّةً أخرى؟
كان هذا السؤال هو أكثرَ الأسئلة حضورًا في ذهني أثناء مراسيم العزاء. أنا وجدّتي وحيدان الآن في البيت. يوميًّا، نغادره إلى الوادي؛ تحملني بين يدَيها، وتضعني فوق الحمار. يمشي الحمار بتباطؤ، ويتمايل جسدي مع خطواته. وعندما نصل إلى السيل أسفلَ القرية، تتابع جدّتي المضيّ نحو الوادي لجلب الأعلاف إلى الماشية في البيت، بينما أبقی، أنا، في السيل أملأ "الجالونات" بالماء إلى حين عودتها. في طريق العودة، لا تسمح لي جدّتي بالركوب علی الحمار، لكونه محمّلًا بالماء والأعلاف.
سابقًا، كانت في طريق العودة تحثّني علی الإسراع في الخطو كي تعود لتجهيز الغداء للحاج ــــ كما كانت تنادي جدّي ــــ الذي يقضي وقته في المسجد وفي الإصلاح بين الناس. ولكن، اليوم، كلّ شيء اختلف. في طريق العودة نصل إلى جوار المقبرة. نربط الحمار، ثمّ نتلو الفاتحةَ علی روحه وأرواح المؤمنين، وننصرف. نفعل هذا كلّ يوم منذ رحل. أمّا في يوم الجمعة ــــ الذي كان يجلب لنا فيه دجاجةً ــــ فنزيد علی ذلك بأن نضع أغصانَ "الشقر" الفوّاحة علی القبر، وننثر القمحَ حوله كي يأكل منه الطير، ونملأ الحفرة الصغيرة علی القبر بالماء كي يشرب منه.
في آخر جمعة، وجدتُ جدّتي تبكي وهي تمسك برأسها بين يديها. كانت تخاطب جدّي، والدموعُ تنهمر من عينيها. كانت تهمهم بكلماتٍ مبلّلة. وكان منظرُ الدموع وهي تتخلّل تجاعيدَ وجهها كفيلًا بأن يرغمني على مشاركتها، فانفجرتُ باكيًا:
ــــ قولي له يرجع... "أشتهي" دجاج!
كنتُ ــــ ككلّ أهل القرية ــــ أجد ضالّتي في الأعراس والمآتم، التي يقضي عُرفُ القرية فيها بإقامة وليمة وذبائح عند الفرح أو الموت.
اليوم، وبعد أكثر من خمس عشرة سنة، أرى أطفالَ القرية وقت المغيب وهم يجلسون علی حافة الهضبة التي تربض عليها القرية، منتظرين عودةَ آبائهم الذين غيّبتهم الحرب. وفي كلّ يوم يصل إلى القرية خبرُ وفاة والد أحدهم، فتضجّ القريةُ بالنواح، ويرتدي ذوو المفقود السوادَ.
لم يعد أحدٌ يقيم مأتمًا لرحيل أحد! كلُّ ما يمكنكَ فعله، إنْ فقدتَ أحدًا في هذه الحرب المجنونة، هو أن تنتظر خبرَ وفاة شخصٍ آخر كي تنتهي ضيافةُ الحزن الثقيلة من بيتك، وتنقلها إلى بيتٍ آخر.
أحدّق في عيون الأطفال وأتساءل
ــــ ما هي أحلامهم؟
بالتأكيد ليست لحمَ الدجاج كما كانت أحلامي. فالكثير من آبائهم التحق بجبهات الحرب لجلب لقمة العيش هذه.
الموت في بلدي قد يغدو موسمًا لجلب الرزق، موسمًا لسدّ الأفواه الجائعة والبطون الخاوية؛ موسمًا لارتداء ابتسامة، نعرف أنّنا سنخلعها إلى الأبد بطلقة طائشة. ومع هذا، أجد عيونَ الأطفال تُفشي أحلامَهم إلى قرص الشمس الذائب قائلةً:
ــــ قولي لهم أن يرجعوا... ولا نريد الدجاج!
- كاتب يمني