جاء في التقديم بقلم الدكتور أسامة الأشقر:
أتى هذا الكتاب ضمن سياق عام يحمل همّ توضيح القضية الفلسطينية وإتاحة المعرفة بجوانبها بلغة سهلة ومكثفة وموجزة ومشوّقة، ولكي يجمع الكتاب كلّ هذه الصفات كان لابد من انتداب كاتب استثنائي لديه المعرفة واللغة والرشاقة الأدبية والقدرة على القصّ، فإذا انضاف إلى ذلك التجربة الغنية، وشهودُ أحداث التاريخ الذي يكتبه فلابدّ أن نكون ممتنين جداً لذلك الزمان الذي جاد علينا برجل يحمل تلك الصفات.
كاتب هذا الكتاب واحد من المؤرخين الذين يسحرونك باتّساع معرفتهم، ويشدّونك بتفاصيل وفيرة، وسرد ماتع لذيذ، يوحي بالمشاركة في صناعة الحدث أو الإطلال عليه؛ وهو أديب يتذوق اللغة بقلمه، ويحسن التمييز بين مذاقات حروفها وألوانها، ويقيس حرارتها وبرودتها باحتراف قديم، وهو صحفي عريق أيضاً يحسن العرض والإدخال والخروج.
وعندما ألححنا عليه أن يترك لنا بصمته الكتابية، ونحن العارفون ببصمته الصوتية وتأثيراتها، تمنّع علينا، وتأبّى أول الأمر، وهو القادر المتمكّن، فهو رجل يحب الاعتناء بلغته ورأيه، ويجهد في صناعتها، وتجد بناءه قد وصل إلى آخره أو يكاد ثم ينتزعه من رابيته المشرفة، ويضعه في درج مكتبه الذي يحوي الكثير من كتاباته.
أما موضوع الكتاب فهو الأمر الآخر الذي أرهق الكاتب وأشغله فأنت تتحدث هنا عن سياقين مختلفين، وإن كان كل واحد فيهما يسمى احتلالاً ولبقعة واحدة، فظروف احتلال بيت المقدس وسياقه عام 1948م غير ظروف احتلال ما تبقى منها عام 1967م وسياقه، ومع ذلك فقد استجمع المؤرخ الأستاذ محمد أبو عزة معرفته وخبرته ليقدم لنا هذا العرض الغنيّ السريع لهذين الحدثين الضخمين، وأحسب أننا سنجد فيما كتبه تسجيلات رأيٍ ذكية، وتأشيرات نقد عابرة، تحكي معرفة الكاتب بأسرار لا يودّ البوح بها أو الكشف عنها واثقاً من أنّ الزمان سيكشف بالوثائق عنها فيما يقتبل من زمان.
وجاء في مقدمة الكتاب بقلم مؤلفه محمد أبو عزة :
موضوع هذا الكتاب (القدس بين حريقين 1948-1967)، تلك الحرب التي صورتها بعض الكتابات وكأنها نتاج خطأ وقعت فيه قيادات فلسطينية وعربية، أو أنها مجرد قضاء وقدر لابدّ من وقوعه.
لقد اشتملت الرواية الصهيونية للحرب على القدس في عام 1948 على جملة من المزاعم منها: (إن قيام دولة إسرائيل تتويج لحركة انبعاث قومي لشعب أقام دولته المستقلة على أرض يملك معها صلات تاريخية)، وإن ما حلّ بالشعب الفلسطيني (نتائج مرافقة لسعي الشعب اليهودي للاستقلال)، وخروج الفلسطينيين كان عملية (إخلاء اختياري)!!
وركزت على أن العرب (هم المبادرون للحرب عام 1948) و(هم الذين رفضوا قرار التقسيم) ولذا (كانت الحرب محاولة يائسة من اليهود للدفاع عن أنفسهم إزاء الرفض العربي المطلق لوجودهم)، وأن القوات اليهودية كانت في حرب 1948 (أقل تفوقاً في العدد والعتاد) و(كان البريطانيون مؤيدين للعرب الأمر الذي ألقى عبئاً إضافياً على عاتق القوات اليهودية)، وانتهت الحرب بـ (نصر معجزة تم تحقيقه بفضل التميّز اليهودي في القدرات الأخلاقية والقتالية، والقوات المذهلة تحت قيادة خارقة ومقاتلين متفوقين في شجاعتهم وصمودهم وحكمتهم)!
وتضمنت مذكرات قيادات صهيونية (بن غوريون، غولدا مائير، موشي دايان، أبا إيبان) وكتابات قيادات عسكرية وسياسية بريطانية (أمثال الفريق كلوب) وغيره بالإضافة إلى كم هائل من (الوثائق) المكتوبة بإملاءات صهيونية والمشتملة على (خصائص اليهود العسكرية) التي منعتهم من الاستيلاء على كامل القدس عام 1948 (لأسباب إنسانية)، سلسلة طويلة من الافتراءات والمزاعم تبدو معها الحاجة ماسّة لتسليط الضوء على الحرب في القدس، وتفسير الهزيمة التي حلت بنا في عام 1948، أو حتى لتبريرها.
وأيضاً الحرب على القدس عام 1967 التي أطلقوا عليها ألقاباً مثل (النكسة) و(حرب الأيام الستة)..الخ، في محاولة لزرع اليأس في نفوس الفلسطينيين والعرب، وفرض الاستسلام للجيش الذي لا يقهر، مع أن كل ما في الأمر أن عدونا الصهيوني قد سلخ ما يقرب من خمسين سنة -منذ مؤتمر بازل عام 1897- في الإعداد للحرب على فلسطين والقدس، وما يقرب من عشرين سنة بعدها في الإعداد لتلك المعركة العسكرية التي نفذها في الخامس من يونيو (حزيران) 1967، أثناء ما قضينا نحن العرب تلك الفترات من الزمن في كل ما من شأنه أن يوفر فرصة النصر للعدو، وهذا يحتّم علينا أن نعترف أننا مسؤولون في كل أقطارنا العربية عن الهزيمتين، وأن أسباب الهزيمة تتعلق بنا أكثر مما تتعلق بالعدو نفسه.