طارق عسراوي
ثلاثة أقواسٍ حجرية جملونيّة متتالية، يُفضي كل منها إلى غرفة مستقلّة، وأمام الأقواس حوش تسيح فيه الدجاجاتُ من قنّها المنزوي القائم من قش وطين.
والبناء محاط بسورٍ، من حجارة اقتلعها الحجّار من جوف البئر القديمة، التي توسّطت ساحة البيت الشاسعة.
اعتادت المرأة أن تجلس، في ضحى النهار، إلى حافّة البئر، تحت أفياء شجرة العنّاب المكتظّة بالأزرار السكّريّة، بثوبها القرويّ الفضفاض، تنعف للدجاجات ما فاضَ من رز وحبوب، وتنشل من البئر ما يبلّل بقايا الخبز الناشف... ليكون غذاء للدجاج.
والمناديل على غصون الشجرة تهفّ وتتراقص، معقودة من كل لون وشكل... إذ تأتي سيدة فتربط منديلاً وتتمتم... وتمضي، وتجيئ امرأة أخرى وتعقد منديلًا جديدًا، ثم تحضر صبيّة فتربط منديلًا آخر... وهكذا، حتى غدت شجرة العنّاب تعجّ بالمناديل، لأن أهل البلدة اعتقدوا أنها شجرة مباركة، وإنْ جاءت صاحبة أيّ حاجة وربطت منديلها على أيّ غصن في الشجرة وتمنّت على الله ليحقق لها هدفها... فإنه سيتحقق ببركة هذه الشجرة، التي يسكنها قوم من الجان الصالحين.
ولطالما سمعتْ صاحبة البيت ما تدعو به النساء، فهذه ترجو أن يزوّج اللهُ ابنتَها العانس، وتلك تريد مولودًا ذكرُا حتى لا يتزوّج عليها زوجها أو يطلّقها، وتلك ترجو عودة أخيها من غربته، وامرأة تلهج بالدعاء لأشقائها الذين سكنوا كهوف الجبال... وكان الديك يقف منتصبًا أمام النساء وهنّ يشخصْن ببصرهن ويرفعن أياديهن، وما أن تنتهي الواحدة منهن، حتى يطاردها الديك كأنه يطلب منها الخروج من الساحة!
ويصدف أن يأتي طفلٌ مع أمّه... فيغويه ثمرُ العنّاب، حين يحمرّ خدّه دلالة على نضوج السُكَّر فيه، لكنّه كان يخشى الاقتراب من الشجرة، لأن الديك صاحب العُرف الهرميّ، يحرسها بمنقاره! والديكٌ بنيّ الجناحين، رأسه مائلٌّ للمعان الذهب، وبعض ريشات ذيله سوداءُ مصقولة تلمع تحت الشمس.
ديكٌ شرسٌ، لا يَطيعُ غير صاحبة البيت، ولا يسمح لسواها الاقتراب من شجرة العنّاب! كانت تقطفُ للأطفال حبّات العنّاب المعسولةِ وهي تطردُ من قلوبهم خشية الديك، بِكشّة عبارتها المكرورة "كِشّ وَلَه" ومن يومها صار اسم صاحبة البيت امرأة العنّاب!
ذات نهار، كنت ألهو أمام البيت مُشْرع الأبواب... فدخلت ُ لأقطف بعض العنّاب، فقبضت يدٌ على ذراعي... كانت امرأة العنّاب تمسِك بيدها الأخرى فسيلةً من الشجرة، وقالت لي؛ ستقطفُ العنّاب دون مضايقة الديك الجارح، سأزرع لَك هذه القصفة أمام منزلكم وعليكَ أن تعتني بها، وتحرسها من اليد الغريبة، كما يفعل الديك مع أمه الشجرة، ومع الأيّام ستكبر الفسيلة وتحبل بالثمر الحلو...
وقفت خلفَ ثوبها وعيناي تلمعان وترقصان من فرحٍ غامر.
ومرّ ما يزيد على ثلاثين عامًا، رحلت فيها امرأة العنّاب، ونهض الإسمنت المسلّح فوق جثّة الشجرة الأم اليابسةِ، وصارت القصفة ثمرًا من جنّة الذاكرة، تملأ فم الطفل الكبير بالسكّر الذائب، وتطفح الفؤاد بالحنين... ولم يتبق متّسع للمناديل والدعوات!