القدس – مراسلتنا – الرسالة نت
ليست تلك مبالغة ساذجة ولا كلمات تصطف إلى جانب بعضها كي تكمل شكلها فقط، وإنما حقيقة مرة تعيشها أقدس المدن في فلسطين صنعتها أيادٍ فلسطينية إن صحت تسميتها بذلك، بل إنها تحولت من لبّ القضية إلى هامش لا يكاد يُذكر في المناقشات التفاوضية.
وكل ما مرت به القدس الجريحة من إمعان في الظلم واعتداءات وممارسات أثقلت كاهلها واستنزفت مواردها بمخططات العقلية العنصرية الصهيونية، لم يشفع لها أمام ألسنة المفاوضين أن "تزلق" بذكر حق أهلها في الحياة على أرضهم دون تهديد من احتلال لا يرحم، بل تركوا شأنها لخالقها وبرعوا في مفاوضات فارغة لم تجد نفعاً.
نظرة إلى الوراء
وكان لا بد لنا قبل الخوض في رأي المقدسيين حول المفاوضات الحالية وما سيكون مصيرها، أن نستعرض بعض اتفاقيات السلام التي تناست القدس ووضعتها في زاوية مظلمة مثخنة بجراحها، فجاءت معالجة قضية القدس في مشاريع السلام العربية من خلفية الموقف الرسمي الفلسطيني الذي قبل بالضغوط الدولية سيما الأمريكية خلافا لكل المواقف الشعبية والحزبية الفلسطينية والعربية والإسلامية والعالمية الحرة.
ففي معاهدة كامب ديفيد المصرية الصهيونية تم تجاهل قضية القدس تماما ولم تأت الوثيقة على ذكرها قطعيا، ورغم أن الرئيس المصري آنذاك أنور السادات حاول لفت النظر إليها لحفظ ماء وجهه إلا أن الاحتلال أكد على تمسكه بالقدس التي ستكون "عاصمة أبدية لا تتجزأ لدولة إسرائيل الخالدة".
أما اتفاقية أوسلو المذلة فأجلت النظر في قضية القدس وآلية البت فيها إلى مفاوضات الحل النهائي إلى جانب مواضيع حساسة أخرى كالمستوطنات واللاجئين والحدود والأمن، وكان من المفترض أن يتم النظر فيها بعد ثلاث سنوات من توقيع الاتفاقية بين السلطة والكيان الصهيوني إلا أن ذلك لم يحدث وفقا للمخطط الصهيوني.
وأكملت الأنظمة الرسمية العربية كل ذلك بتكرار العبارات التي تنص على أن تكون "القدس الشرقية" عاصمة لدولة فلسطين المستقلة، ثم أُصدرت مبادرة السلام العربية التي راوغ الاحتلال وعاندها ولم يوافق عليها، ولكن الأنظمة العربية بقيت تردد العبارات التي وردت فيها بشأن القدس رغم أن الاحتلال أعلن موقفه العنصري بشكل واضح.
وخلال كل تلك المماطلات تمكن الاحتلال من تنفيذ استراتيجته الخاصة في القدس المحتلة بتهويدها بشكل مبرمج ومدروس وتثبيت سيادته عليها من الحفريات إلى مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات وشق الطرق الالتفافية وهدم المنازل العربية وتضييق الخناق على المؤسسات الفلسطينية وفصل المدينة عن امتدادها الجغرافي مع الضفة ومنع دخولها.
بلا جدوى
ويأتي الإعلان عن انطلاق المفاوضات المباشرة دون أي خيوط أمل بحل قضية القدس أو حتى بذكرها في أروقة المفاوضات على ألسنة أي من الطرفين، فكلما سُئل "كبير المفاوضين" عن مستقبل القدس في المفاوضات أجاب بأنها لن تتطرق إلى هذه المواضيع!
وفي هذا الشأن يعتبر الخبير في شؤون الاستيطان خليل التفكجي أن الاحتلال سارع دوماً إلى إبعاد القدس عن أي مفاوضات من أجل إبقاء قضيتها في زاوية معتمة خارج أي حديث تسوية كي يتسنى له تهويدها وممارسة ظلمه بحق سكانه، لافتاً إلى أن الاحتلال يسعى إلى تنفيذ مشروع 2020 في المدينة والساعي إلى تحويلها إلى مدينة يهودية خالصة خالية من الفلسطينيين.
ويؤكد التفكجي لـ"الرسالة نت" أن موافقة السلطة على تأجيل قضية القدس خلال مفاوضات أوسلو ومن ثم تجاهلها في هذه المفاوضات إنما يعد خطأ استراتيجيا كبيرا لأن سلطات الاحتلال تستغل التسوية لتصفية القضية بشكل نهائي.
ويضيف:" إن ما تنفذه بلدية الاحتلال في حي سلوان على سبيل المثال يعتبر عملية تكسير عظام لأنها تسعى إلى تحقيق هدف خطير يتمثل بتقليص عدد السكان العرب إلى ما نسبته 12%، من خلال إخراج 125 ألف فلسطيني خلف الجدار (كفر عقب، شعفاط) ومصادرة 15 ألف هوية مقدسية، إضافة إلى هدم مئات البنايات السكنية وتشريد سكانها".
ويقول التفكجي إن هدف الاحتلال الأول والأخير هو مفاوضة الفلسطينيين على فتات من أراضي الضفة مقابل تنازلات كبيرة من السلطة بينما لا تدخل القدس أي محادثات وتبقى على حالها تحت آلة التهويد حتى يشرد سكانها ويطبق المشروع الاستيطاني 2020.
"ضحك على اللحى"
أما أصحاب الشأن الأكبر وهم المقدسيون فيرون أن مثل هذه المفاوضات كمثل من فسّر الماء بالماء، حيث لا توجد حولها أي ضمانات ولن تفضي إلى شيء ولا يوجد لدى المفاوض أي أوراق يقدمها، والأهم من ذلك كله أن القدس فيها خارج إطار المحادثات.
فيقول مسؤول ملف القدس في منظمة التحرير الفلسطينية حاتم عبد القادر إن مثل هذه المفاوضات لن تجدي نفعا في التوصل إلى أي اتفاق لأنها غير قائمة على شيء بل ستنتقص من حقوق الفلسطينين بشكل متزايد، مبيناً أن المقدسيين يستهجنون الحديث عن المفاوضات ويتساءلون عن سبب عدم إدراج قضيتهم في أي منها.
ويضيف عبد القادر لـ"الرسالة نت" :"هذه المفاوضات غير آمنة وتنتقص من حقوقنا كمقدسيين قبل كل شيء، فكيف للمفاوض أن يدخل محادثات دون التفاهم على أهم قضية مركزية، وكيف للمفاوضات أن تنجح دون أن تكون القدس جوهرها".
أما رئيس الهيئة الإسلامية العليا الشيخ عكرمة صبري فيؤكد أن المفاوضات دون القدس تحولت إلى أمر طبيعي لدى المفاوض الفلسطيني بعدما تم تجاهلها في اتفاقيات السلام السابقة، وهو الأمر المستغرب والمستهجن.
ويرى صبري في حديث مع "الرسالة نت" أن مسلسل المفاوضات عاد ليتكرر من جديد لدى المفاوض الفلسطيني ولكن بسياسة صهيونية جديدة وهي التمسك بالقدس وعدم إتاحة الفرصة للفلسطينيين بالحديث حولها، معتبراً أن كل ذلك يصب في مشاريع الاستيطان المتواصلة في المدينة ويقلل من شأنها في عقلية المفاوض الفلسطيني.
من جهته يبين رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذوكس المطران عطا الله حنا أن كل المقدسيين يرفضون التخلي عن شبر من مدينتهم أو منازلهم للمغتصبين عبر أي اتفاق أو حرب، موضحاً أن المفاوضات وإن لم تنتصر للقدس كما هي عادتها فإن المدينة برجالها ستنتفض على الظلم الصهيوني.
وتابع:" المفاوضات دوما تضع الفلسطينيين في موقف محرج وترغمهم على التنازلات، وما زالت تضيع القدس وما زالت تهوّد والمفاوض ما زال يبعدها عن محادثاته ويؤجل النظر فيها".
وفي مقتطفات سريعة من آراء الشارع المقدسي تبين أن نسبة ساحقة منه تستنكر على السلطة دخول مفاوضات فارغة منذ البداية ولا تتطرق إلى قدسهم حتى في البيانات والخطابات الرسمية، فيقول الشاب محمد سليم من قرية صور باهر:" القدس دوما كانت تستبعد في المفاوضات والاحتلال استغل كل ذلك لمشاريعه"، بينما تقول السيدة سعاد الحمصي:" القدس هي مركز فلسطين وهي عربية وإسلامية شاء الاحتلال أم أبى وشاء المفاوض الفلسطيني أم أبى، ولن نسمح لهم أن يتناسوها تحت أي اتفاق مذل".
وتبقى المدينة المكلومة بمقدساتها، يفاوضون عنها ولم تخولهم، يهدمون منازلها ولم تبتسم لهم، يعتقلون أبناءها ويبعدونهم عنها ولن يروا عبراتها.. كل ذلك لسرقة حاضرها وماضيها ومستقبلها ولن تركع ما دام القدس اسمها.