الآن لم يعد بمقدور محمود أن يركض أو يقفز أو يذهب إلى مدرسته في الموعد المحدد، فعدا أنه ما زال صبيا يافعا فهو يخوض تجربة الاعتقال وحده بعد أن اختطفته قوات الاحتلال من بلدة الخضر جنوب بيت لحم، عقب إصابته بأعيرة نارية في قدمه اليسرى.
بقي محمود يوما كاملا دون أن تعلم عائلته مكانه، بينما تناقل شهود عيان أخبار اعتقاله مصابا، ثم يخوض المصاب القاصر تجربة أخرى تقضي ببتر قدمه اليسرى النازفة على يد طبيب محتل، بعد أن فقد نصف دمائه لمدة أربعين دقيقة وهو مهمل، ثم يدعي المحتل أنه مضطر لبترها إنقاذا لحياته! وهكذا لك أن تتخيل الصورة، طفل نازف على سرير المرض، يقطع المحتل قدمه اليسرى من أسفل الركبة، بينما يكبل قدمه اليمنى ويربطها في سرير المرض، هذا الطفل الذي لم يتجاوز الرابعة عشر، كان يحلم قبل ساعات بأن يلعب الكرة مع رفاقه بعد صلاة التراويح، وربما كان له كثير من الأحلام التي تتوجب أن يركض نحوها بقدمين، فما هو فاعل الآن بهذه الأحلام؟ تقطعت أوردة قدم محمود، وأصبح من المستحيل أن تكمل الطريق برفقته، وتعطلت معها الأوردة الدموية، وأصبحت حياته معرضة للخطر من كثرة ما نزفت كما قال المحامي في هيئة شؤون الأسرى كريم عجوة الذي زار محمود بعد إجراء العملية مباشرة.
عائشة أم محمود لم تكن تعلم شيئا حينما جاءها رفاقه يوم الثلاثاء ركضا ليخبروها أن ابنها مصاب وأنه اعتقل فور إصابته، لا لشيء، سوى أنه قذف الحجارة في وجه "جيب" الاحتلال الذي كان يطلق الرصاص عشوائيا اتجاه الشباب المتجمهرين ما بعد الإفطار في بلد الخضر جنوبي بيت لحم، بينما يدعي الاحتلال أن محمود كان يحمل زجاجة مولوتوف وينوي قذفها باتجاه سيارة الجنود.
وقد خرج سكان المنطقة لمواجهة الجنود الذين يحملون كالعادة روايتهم الكاذبة في جعبتهم، فتفاجأ السكان بمحمود ممددا خائفا يصرخ، وقدمه تنزف بشكل مريع، بينما يقف الجنود بجانبه يمنعون المواطنين من الاقتراب منه وإسعافه، حتى نزف لأربعين دقيقة متواصلة قبل أن تأتي سيارة الإسعاف وتنقله إلى مستشفى شعاري تسيدك الإسرائيلي، حيث تقرر بتر قدمه في اليوم التالي مباشرة.
وضع محمود الصحي مستقر الآن، وما زال نائما لا يعي ما الذي يحدث حوله، وقد جدد الاحتلال اعتقاله لثمانية أيام أخرى، بينما يعيش والديه حالة من الانهيار لأن ابنهما الذي يدرس في الصف التاسع خسر قدمه، وخسر عامه الدراسي أيضا لإصابته في أسبوع الاختبارات واعتقاله. ويعيش أهالي بلدة الخضر حالة من الخوف الدائم لطبيعة سكنهم على الطريق الالتفافية التي يمر من خلالها المستوطنون وتنتشر دوريات حماية عسكرية لهم، على الأرض الفلسطينية التي بللتها دماء محمود قبل أيام وعشرات الشهداء والجرحى قبله.
وقد رصدت هيئة شؤون الأسرى في تقريرها السنوي تصاعدا خطيرا في استهداف الأطفال الفلسطينيين خلال السنوات القليلة الماضية، وذلك في إطار سياسة إسرائيلية ممنهجة تستهدف الطفولة الفلسطينية، من حيث تضاعف أرقام الاعتقالات من جهة، وتزايد حجم4م الانتهاكات والجرائم المقترفة بحقهم والأحكام الجائرة الصادرة بحقهم والغرامات المالية المفروضة عليهم من جهة ثانية.
وبلغ معدل الاعتقالات السنوية في صفوف الأطفال خلال العقد الماضي (2000-2010) نحو (700) حالة سنويا، فيما ارتفع منذ العام 2011-2017 ليصل قرابة (1250) حالة اعتقال سنويا. وسُجل منذ أكتوبر 2015 وحتى الأول من نيسان 2018 قرابة (4700) حالة اعتقال لأطفال قصّر تتراوح أعمارهم ما بين 11-18 عاما.