يعود اللبناني جورج يرق في روايته "حارس الموتى" إلى أواخر السبعينيات من القرن العشرين، ليسلط بعض الأضواء على واقع بلده في تلك المرحلة الحرجة من تاريخه الحديث، حيث الحرب الأهلية مستعرة، والتحزب يحل محل الوطنية التي تتراجع أمام الانتماءات الضيقة، والعصبيات المحرضة على مزيد من التعارك والتناحر والانتقام.
تبدأ الرواية (منشورات ضفاف والاختلاف 2015) بعملية خطف يكون الراوي شاهدا عليها، وناقلا تفاصيلها، وتنتهي أيضا بعملية خطف أخرى، يكون الشاهد السابق ضحيتها، وكأنه يعكس حال بلد مخطوف من قبل قوى تملي عليه شروطها وتتحكم بمقاليده وتمسك زمام الأمر فيه، ووحدها المصادفات تحرك الشخصيات بين حالتي الخطف الأولى والختامية، تلك التي تفتح الباب أمام تساؤلات عن هويات مقترفيها ودوافعهم.
يمنح يرق (1958) للمصادفات دورا كبيرا في رسم ملامح بطله "عابر ليطاني" والمنعطفات التي قادته فيها والمحطات التي أوصلته إليها، حيث وجد نفسه مضطرا للانتقال من قريته إلى بيروت جراء مصادفة وجوده في مكان خاطئ، ورؤيته رجلا تغطيه الدماء وينهض من بين القمامة.
بعد ذلك يعرف أنه كان الأستاذ الذي انتقمت منه بعض العناصر الحزبية نتيجة مواقفه المناوئة لحزبهم، وتكون تلك المصادفة نذير شؤم له، ويفضل أهله أن ينتقل لمكان آمن كي لا يتهم بالجريمة، ثم يقرر الانتقال إلى بيروت وسط تلك الجلبة ليصطدم بواقع أكثر دموية من واقع قريته.
ويرصد يرق التحولات الكثيرة التي يمر بها عابر ليطاني في فترة قصيرة من حياته، فالشاب الذي يكون في العشرينيات من عمره تزيده التجارب القاسية خبرة وحنكة، وتصقل شخصيته وتقويه، ويغدو كشيخ هرم.
فالصياد الهاوي الذي كان يصطاد الطيور ويتسلى بهوايته في القرية يتحول في بيروت إلى قناص محترف، ينخرط في صفوف أحد الأحزاب طلبا للمأوى والاستقرار، فيجد نفسه بين براثن مجرمين يقاتلون من أجل غايات بائسة، ويصورهم كقطاع طرق أكثر منهم مقاتلين من أجل قضية.
يلفت صاحب رواية "ليل" إلى أن الناس يرتكبون الكثير من الممارسات الشائنة في الحرب الأهلية بنوع من البساطة، بحيث لا يتردد الجار في قتل جاره والتنكيل به، أو السطو على ممتلكاته، لا لشيء إلا أنه من حزب آخر أو من طائفة أخرى، ويلفت إلى أن مبدأ القوة هو الذي يتحكم في الناس، ويقودهم إلى مهالك الحرب ومسارات الدم والجنون.
يجد بطل الرواية نفسه متشردا في بيروت، ثم يشعر بالإذلال لانضوائه في متاهة الحرب، واستغلال الحزب لحاجته وفقره وانعدام حيلته ووسيلته، لا يصبح قاتلا رغم أنه يكون مقاتلا يشترك في أعمال حربية، كما يكون قناصا بارعا.
إلا أنه يحاول تجنب قنص أحد الناس، فتراه يعابث أحدهم في تبديد سرب حماماته، في مقطع لا يخلو من الفكاهة والسخرية، ويترك خطوط التماس وينتقل من الجبهات ليهرب من ذلك المأزق الذي وجد نفسه فيه، وذلك بعد مقتل صديقه المقرب "عزيزي" وشكه في قرب تصفيته أيضا.
يترك "عابر" الحزب والحرب ويلعنهما معا، يعود إلى تشرده وضياعه، وبمصادفة أخرى يقصد إحدى قريباته التي تعمل في بيت طبيب معروف يتوسط له في إحدى المشافي ليعمل فيها، وهناك يتغير مسار حياته أيضا، ليدخل عالما من النقائض والغرائب.
يصبح حارس براد الموتى في المشفى، تعلمه الراهبة كريستين كيفية تنظيف الموتى وتهيئتهم لتسليمهم لأهلهم لدفنهم، ناهيك عن تعرفه على عوالم جديدة أثناء عمله هناك، وحقيقة المساواة التي وجدها في البراد، ومحاولته تصحيح مسار العدالة في ذاك الحيز الضيق المتاح له.
يكشف يرق من خلال عمل بطله في المشفى الفساد الذي يتفشى في مختلف تفاصيل الحياة في المدينة أثناء الحرب، وواقع أن المشفى يكون صورة مصغرة للحرب، برغم افتراض تفضيل الجانب الإنساني فيها، لكن ذلك لا يكون، بل يحضر نوع من الصفقات فيها، تكون عبارة عن مؤسسات متفسخة مشوهة، وتعكس صدى الفساد العام المدمر، وأحد انعكاسات الحرب التي لا ترحم.
يشير يرق إلى استغلال راويه حالات الموتى، ويسرد حكاياتهم المتخيلة، ويبتز بعض ذويهم، ويحول عمله البائس إلى مصدر لجمع المال، ويتعرف على جانب آخر من شخصيته مع الموتى، يكشف عن صور البلد الأكثر قتامة ووحشية عبرهم، ويكتشف المأساة الكبرى التي تحل بالناس أثناء الحرب، وهي تحليهم بصفات إجرامية تسيء إلى إنسانيتهم، وتخرجهم من طور إلى آخر، وصولا إلى انتهاك معمم.
يستخدم يرق في روايته، المدرجة ضمن القائمة القصيرة للبوكر العربية 2016، أسلوب السخرية المبطنة المريرة، تلك التي تعكس صورا كوميدية مستلة من واقع مأساوي، وبذلك الأسلوب يضفي مسحة من البسمة الممزوجة بالدمعة.
من خلال ذلك ينبه الكاتب إلى أن هناك أسلحة إنسانية يمكن عبرها مواجهة عبث الواقع، وحقيقة أن الموت والدمار والحرب تتحول إلى أشياء مثيرة للقرف والسخرية حين التدقيق في خفاياها.