بعد يوم شاق من نصب شباكه، يصفف الصياد محمد بكر شباك صيده، فيما تنشغل أصابع يده مُسرعة في إخراج الأسماك العالقة منها، ومع الساعات الأولى لبزوغ شمس يومه يهم إلى حسبة السمك كي يعرض ما اصطاده.
الصياد بكر لا يجد بدا من صيد سمك سردين "البزرة" التي يجدها مصدرا وحيدا لسد رمق أطفاله؛ بسبب المنع المتكرر من الاحتلال الإسرائيلي للصيادين من الصيد لمساحات أوسع في عرض بحر غزة، مما يضطره إلى استخدام شباك صيد يضيق فتحات أعيُنها عن الـ 10 ملم من أجل أن تعلق بها يرقات أبو بذور أو المسماة اصطلاحًا "زريعة الأسماك"، التي يحظر قانون الصيد الفلسطيني صيدها!
ويقول الصياد الأربعيني الذي تميل بشرته إلى اللون القمحي، إن المضايقات اليومية وتقليص مساحة الصيد المستمرة من سلطات الاحتلال، إلى جانب قلة الإمكانيات لديه تدفعه إلى الصيد "الممنوع" والذي يٌسهل عليه الحصول على كميات وفيرة من الأسماك الصغيرة كمصدر دخل له ولأطفاله السبعة.
لم يكن بكر الصياد الوحيد الذي يتخذ من صيد سمك "البزرة" سبيلا، فالسائر في سوق حسبة السمك وسط مدينة غزة، والأسواق الأخرى يلاحظ انتشار كبير لهذا النوع من الأسماك في الآونة الأخيرة، لاسيما بعد تكرار الاحتلال تقليص مساحات الصيد إلى ما دون 6 أميال.
التجاوزات السابقة دفعت معد التحقيق إلى البحث وراء الظاهرة التي لها تداعيات مستقبلية خطيرة على البيئة عموما والثروة السمكية خصوصا في بيئة بحر قطاع غزة التي تعاني أساسا من شبه التسحر، إلى جانب أنه يشكل انتهاكا صارخا لقانون الصيد الفلسطيني الذي يحظر صيد هذا النوع من الأسماك.
صيد ممنوع
وبحسب القانون الفلسطيني فإنه يُمنع صيد سمك البزرة منذ عام 2000م، وما تلته من تعديلات كانت جميعها تنص على منع صيد السمك الصغير بشباك لا تتجاوز فتحتها سنتيمترًا واحدًا.
وكانت اللجنة الاقتصادية في المجلس التشريعي قد أوصت في تموز من العام الماضي بمنع صيد سمك "البزرة" وعدم استخدام شباك لا تقل عن 10م، ومنع الصيد بشباك الجر، وكذلك منع الصيد عند مصبات الصرف الصحي بهدف الحفاظ على المصلحة العامة.
ويؤكد المدير العام للإرشاد والتنمية لوزارة الزراعة سابقًا نزار الوحيدي، أنه يتم اصطياد أكثر من 1500 طن من الأسماك، كمية كبيرة منها تتراوح أوزانها ما بين 1 – 5 غرام، بشباك الصيد التي لا يزيد قطر عيونها عن 10 ملم، مما يعني أن الأسماك تنتمي لفئة الأسماك غير الصالحة للأكل، والتي يشكل اصطيادها بهذا الحجم الكبير ضررا بالثروة السمكية وتؤدي إلى تدهور مخزون البحر المتوسط من أسماك السردين خاصة.
ويوضح الوحيدي في حديثه لـ"الرسالة" أن الأسماك صغيرة جدا ولم تصل إلى الحد الذي يجيز استهلاكها كغذاء، ولصعوبة تنظيفها وبقاء جزء كبير من أمعائها والمخلفات الضارة بالصحة منها في الطعام.
نقيب الصيادين: صيدها غير مُبرر كونه ممنوعا قانونياً ومحظور في كل العالم
ويلفت إلى أن الاعتقاد أن هذه الأسماك لا تكبر، وأن هذا حجمها النهائي، غير صحيح فهي في الغالب يرقات أو بذور أو المسماة اصطلاحا "زريعة" سمك السردين التي تقع في شباك الصيد المخالفة للتعليمات.
ويشير إلى أن سمك "البزرة" يعيش في مجموعات (أسراب) كبيرة جدا تصل أعداد أسماكها إلى الملايين، مما يسهل على البحارة اصطيادها، هذا بالإضافة إلى أنواع أخرى من الأسماك المهاجرة.
مخاطر بيئية
ويتفق د. عبد الفتاح عبد ربه أستاذ العلوم البيئية المشارك في الجامعة الإسلامية، مع سابقه، مبينا أن 60% من الإنتاج السمكي في قطاع غزة صيد "بزرة" الأمر الذي يهدد بكارثة بيئية في المستقبل القريب.
ويوضح عبد ربه في حديثه لـ"الرسالة" أن صيد هذه الأسماك من الناحية البيئية يضر بالسلسلة الغذائية السمكية ويُحدث خللا في النظام البيئي ويفاقم التنوع الحيوي في البيئة البحرية، لا سيما وأن بيئتنا شبه متسحرة كون القاع رملي غير منتج للمادة العضوية.
ويُبين أن الثروة السمكية ضعيفة بالأساس والإنتاج الشهري لا يكاد يتجاوز الألفي طن، فيما يزيد صيد سمك البذرة الطين بلة "وهذا لا يعد في تقدم واستثمار ونمو واستدامة للمصادر السمكية في البحر".
ويشير إلى أن منطقة الصيد في كل دول العالم هي أعالي المياه والمياه الإقليمية لأميال بعيدة في البحر لكن صيادين القطاع يعانون من ضيق المساحة وتسحرها مما يدفعهم لصيد سمك "البزرة" الممنوع من الناحية القانونية.
خبير بيئي: 60% من الإنتاج السمكي في غزة "بزرة" ويهدد بكارثة مستقبلا
ويشدد أستاذ العلوم البيئية على ضرورة توعية وإرشاد الصيادين بمخاطر استمرار صيد البزرة ومنع استخدام شباك العيون الصغيرة لما لها من عواقب وآثار وخيمة على البيئة إلى جانب دعم صمود الصيادين ومحاولة تعويضهم.
وبالعودة إلى الوحيدي فإنه يحمل مسؤولية صيدها إلى قطاع الصيد البحري والشرطة البحرية والجهات المسؤولة، إلى جانب المستهلكين الذين يتهافتون على شراء هذا النوع، محذرا في الوقت ذاته من الوصول لمرحلة الفقر السمكي وما سيترتب عليه من أثر خطير على أمننا الغذائي في غزة المحاصرة أصلا، على حد وصفه.
غير مبرر
بدورنا توجهنا إلى نقيب الصيادين الفلسطينيين نزار عيّاش، للاستفسار عن دورهم في وضع حد للصياد الذي يحاول صيد هذا النوع رغم حظره، حيث أكد أن الأمر يحتاج لتعويض ما لا يقل عن 3000 صياد بفرص عمل مؤقتة، كونهم يتخذون من البحر مصدر رزق يومي.
وقال عيّاش في حديثه لـ “الرسالة" معظم عمليات التنظيم والرقابة التي حدثت خلال الفترة السابقة أوقعت النقابة بين سندان الصيادين الذين يضغطون لإلغاء القرارات ومطرقة الوزارة التي تريد ما هو صواب للثروة السمكية، وانتهت الحالة بالتراجع عن إجراءاتها.
وأوضح أن الصيد بالشباك الضيقة ممنوع قانونياً ومحظور في كل دول العالم، إلا أن الحصار المفروض على القطاع يجبر الصياد الفلسطيني على استخدام مثل هذه الطرق حتى لا يعود خاوي اليدين.
ويضيف " صيد "بزرة" الأسماك المنتشرة في الأسواق خلال هذه الفترات، يعد صيدا جائرا وتعديا خطيرا على الثروة البحرية، كون الأسماك الصغيرة يتغذى عليها السمك الكبير والغالي الثمن الذي لم يعد متوافراً هذه الفترة إلا بكميات قليلة جداً لا تسعف الصياد بأن يعتمد عليها كمصدر دخل لأسرته".
ويبين أن الصيادين بحاجة أيضاً إلى استبدال معدات صيدهم المخالفة بمعدات جديدة، إلا أن ذلك يعد غير ممكن لعدم مقدرتهم على شراء واستبدال المعدات بشكلٍ كامل نظراً للظروف الحرجة التي يمرون بها، وانقطاع المشاريع الممولة من الدول المانحة خلال هذه الفترات، حيث أنه منذ العام قبل الماضي لم تتقدم أي جهة دولية لأي مشروع يذكر.
مخالفة القانون
معد التحقيق حمل القضية ووضعها على طاولة الثروة السمكية التابعة لوزارة الزراعة، وهناك قابلنا مديرها م. عادل عطا الله، الذي شدد على أن صيد سمك "البزرة" بكميات كبيرة وفي هذا التوقيت مضر جدا، خاصة وأن كل أنواع السمك الكبير يتغذى على هذه الأنواع واستهلاكها يضر بجميع الأصناف الأخرى في البحر.
ويؤكد عطا الله أن صيدها ممنوع حسب القانون الفلسطيني الذي تم اقراره عام 2000 وتعديلاته 2005 تنص على منعها منعا باتا وحظر استخدام الشباك ذات العيون الصغيرة التي تقل عن 1سنتيمتر.
الثروة السمكية: قانون المنع طُبق ليوم واحد فقط ولا نعرف لماذا تم إيقاف العمل به
وعن دورهم في منع الصيادين من صيدها يبين أنهم أرسلوا قبل ستة أشهر رسالة لوزارة الداخلية واجتمعوا مع اللجنة الاقتصادية في المجلس التشريعي وجرى الاتفاق على منع صيدها ومنع استخدام الشباك ذات الفتحات الصغيرة، وتطبيق القانون، إلا أن القانون لم يُطبق إلا ليوم واحد وسرعان ما تم التراجع عنه لأسباب غير معلومة.
وتابع عطا الله " هناك إجراءات يجب أن نتخذها كسلطة وهناك نوع من الصيد يجب أن يتوقف والشبك الصغير يجب أن يمنع، وحتى شهر سبتمبر يجب أن يقف الصيد الممنوع والصيد بالمواد السامة".
ولفت إلى أنهم لا يستطيعون تطبيق القانون لأسباب كثيرة، مشيرا أن المطلوب من الجميع العمل على وقف صيد هذا النوع من الأسماك؛ "لأنه يتم تدمير الثروة السمكية على المدى البعيد".
وحول دورهم في الحفاظ على الثروة السمكية نوه إلى أنهم يمتلكون أبحاثا واسعة ويأخذون عينات أسبوعية من أجل النهوض بالثروة السمكية ولديهم رؤية واضحة لكن ما يُعيق تطبيقها أسباب سياسة ومنع الاحتلال وغياب تطبيق القوانين.
وفي إطار عملية البحث والتقصي، توجهنا إلى المجلس التشريعي الفلسطيني وتحدثنا إلى عضو اللجنة الاقتصادية د. سالم سلامة، الذي نفى بدوره تلقيهم أي شكوى منذ قرابة العام حول إعادة استئناف الصيادين لصيد سمك "البزرة" واستخدام الشباك الممنوعة.
وأوضح سلامة لـ"الرسالة" أن لجنته اتخذت في السابق التوصيات والمجلس دوره تشريعي رقابي ويتابع كل الخروقات، وإذا كان هناك قصور فعلى المختصين رفع ذلك إليهم من أجل أن يحاسبوا المسؤولين عن الصيد ومتابعته.
التشريعي: أصدرنا قرارا بمنع صيد "البزرة" ولم نتلق أي شكوى منذ عام
وعمن يتحمل مسؤولية ما يجري، قال النائب في التشريعي " لابد لوزارة الزراعة متابعة الإخوة الصيادين وتعطيهم الأوامر وتمنع أي شبكة أقل من 10 ملم ومن الممكن أن تصادر الشبكة ويخالف الصياد ويغرم صاحبها".
ويلفت إلى أنهم تلقوا شكوى قبل قرابة عام وتم اتخاذ قرارات رفعت للمتنفذين في الحكومة واللجنة الإدارية بأنه لا يُسمح بصيد "البزرة" وعدم استخدام الشباك الصغيرة.
وخلص معد التحقيق إلى أن المشكلة الأساسية تكمن في تشابك الأدوار الحكومية المسؤولة عن متابعة الملف، والتي يبدو أنها تغُض الطرف عن الاستمرار في اصطياد أسماك "البزرة" واستخدام الشباك الممنوعة بذريعة الظروف الاقتصادية الصعبة، وهو ما يتطلب تعزيز الدور الرقابي والالتزام بالقانون الفلسطيني.
إلى جانب ضرورة دعم وإسناد الصيادين وإرشادهم إلى عدم صيد هذا النوع من الأسماك لما يشكله من مخاطر فادحة تهدد وتضر الثروة السمكية الضعيفة أصلا، والعمل على حماية البيئة وقطاع الأسماك من التهديدات التي تواجهها.