زياد توبة
عمرها بعمر الورد. هذا ليس تشبيهاً مجازياً. وُلِدَت عندما اشترت أمي ياسمينة، وزرعتها في تنكة الحليب الفارغة. عمرها من عمر ياسمينة الدار التي واظبت على النمو في تنكة حليب، كانت تحتوي على نموّنا أيضاً. تنكة حليب تحفظ ياسمينتنا ريثما نقدر أن نسقيها الماء كل فترة عندما يجيز لنا الهدوء الحذر فتح الباب الخشبي لشرفتنا التي تطل على الحرب. عمرها يبدأ حيث توقّف عمر ضحية اليوم. عمرها حرب ونيّف. عمرها بعمر خوفنا. أصبحت الياسمينة الآن بعمر من فُقد بالأمس البعيد. لقد أصبحت شجرة متمرِّدة، شجرة بحجم البقرة تزيّن جداراً مشتركاً مع الجيران، تستر عورات الحروب. تتمدد في فتحات خلّفتها القذائف والرصاص في الجدار. ابنة الجيران عمرها بعمر ياسمينتنا. انتهت الحرب على ما يبدو. نجت الياسمينة من كل احتمالات الموت، كذلك ابنة جيراننا. لكنهما بقيتا في المكان نفسه. الشجرة ما زالت تسند الحائط، أو أنه يسندها لا سيّما أثناء الشتاء. ابنة الجيران أصبحت معلّمة في المدرسة المجاورة التي كانت تلميذة على مقاعدها. ابنة الجيران ما زالت على حالها، وفي مكانها وتنمو على إيقاع تخاله أسرع بقليل، من إيقاع نمو ياسمينتا.
المتغير البارز في الحي، هو موت أمي صاحبة الياسمينة، أما المتغير الثانوي، هو أننا هجرنا الحي والياسمنية والجيران وابنتهم. انتقلنا إلى حي وسرعان ما اشتريت حوضاً بلاستيكياً، وزرعت فيه بوغنفيلية، أو ما نعرفها بلغتنا: "شجرة المجنونة”. شجرة المجنونة هنا تنمو بإيقاع غير منتظم، ولا أعلم إذا ولد أحد في اليوم عينه الذي زرعت فيه شجرتنا. من شبه المؤكد أنه ولد أحدٌ يومها، لكن لا دراية لي بأحوال الجيران الافتراضيين. العلاقات هنا ليست كما كانت في السابق. العلاقات بيننا مقطوعة على الرغم من زوال الحرب. الحرب في السابق، كانت دافعاً قوياً للتواصل أو للعب، حتى للهو وتبادل القصص والنكات. كانت الحرب علاقة ود بين ابنة الجيران وياسمينتنا.
تبدو العلاقات السائدة الآن باردة كالحرب. لا، ليست كالحرب السابقة وسخونتها، إنها كالحرب الباردة التي تدور الآن. حرب يأتي فيها الخوف على دفعات مقسطاً. حرب تدور على كل الشاشات المحمولة والثابتة، في الواقع والافتراض. حرب المنبهات أو ما يُعرف بالنوتيفيكايشن بلغة الهاتف المحمول الذي تشتد وطأة ذكائه علينا. شجرة مجنونة وحيدة تحاول استيعاب ما يحصل، كما تحاول أن تتسلق الجدار وتتبع إيقاع أي مولود حديث. شجرة لم تختبر معنى الخوف والإلفة والتضامن والتكافل والرعب والهلع معاً. ليست كياسمينتنا التي اختبرت كل ما سبق، المجنونة تختبر الوحدة والبرد، وعالمٍ ينمو على وقع التفكك.
الياسمينة ماتت بفعل التطور المشؤوم. ماتت لأن عمارتنا كانت من طابقين، فأرادوها برجاً، يصعب على أي شجرة أن تتأبط حائطاً. ابنة الجيران مازالت هناك، لكنها تعيش ببناء حديث. تجلس على شرفتها في الطابق السادس، وتخاطب فنجان قهوتها التركية، بنظرات تُمحّص تدرجات التفل في قعره. تنتهي الرشفات المتتالية لتبقى آثار البنّ العالقة على جدار الفنجان، جاعلة من التفل طلاسم وإشارات تكفي لأيامها المقبلة. تقرأ ما بين سطور البنّ تفاصيل الغيب، وتفسيرات ما مضى وكل ما سيقضي به القدر. تطمئن من فنجانها على حال أمّها وأمور أخرى لها علاقة بيومياتها. تسأل خاطر حبيبها، وتبحث في يومياته أيضاً. تنظر حوله وتدقق بوجنتيه وبكل ملامحه البارزة في فنجان قهوة. تشتاقه، تغار عليه وتحيك له مغامرات واهمة فتخاصمه وتصالحه من جديد. تتوقع زيارته ومفاجأة وهدية ، قبل أن تقلب الفنجان، لتبدأ الحكاية ولتنتهي في قعر كالح كالبنّ.