في رواية "سيرة التراب" يحاول الكاتب المصري محمد فاروق الشاذلي رصد التغيرات الجغرافية والاجتماعية التي شهدتها منطقة النوبة في أقصى جنوب مصر منذ ستينيات القرن الماضي على خلفية الشروع في بناء السد العالي.
ويقسم المؤلف روايته إلى ثلاثة أجزاء، أولها "التغريبة" والذي يبدأ بمشهد تهجير أهل النوبة من قراهم التي ستغمرها المياه لتتحول إلى بحيرة كبيرة وغضب وحزن أصحاب الأرض لترك بيوتهم وحياتهم الهادئة.
ومع السطور الأولى يظهر البطل الأول للرواية أحمد جلق، ذلك الشاب النوبي الذي يجاهر بغضبه ويدعو على "الظالمين" الذين يدفعونه خارج أرضه وبيته فيكون جزاؤه المعتقل من دون محاكمة أو تحقيق ليترك وراءه عائلته تعاني من التهجير.
من العاصمة يبدأ القسم الثاني والأكبر من الرواية "الشتات"، حيث يقفز المؤلف بالقارئ إلى عام 2011 عند اندلاع الانتفاضة الشعبية التي أسقطت حكم الرئيس السابق حسني مبارك.
"رغم تناولها بشكل مباشر للنوبة وعناية المؤلف الكبيرة في اختيار الأسماء والأماكن والألفاظ المعبرة عن المنطقة فإن رواية سيرة التراب في جوهرها بحث عن الوطن بمعناه الأشمل والأعم"
ومع هذه القفزة الزمنية الواسعة يظهر الجيل الثاني متمثلا في مصطفى أحمد جلق، وابنيه عمر الذي يتمسك بجذوره النوبية، ومعتصم الذي يلفظها ويرفض حتى تعلم اللغة المحلية لأهل النوبة.
تتوالى الأحداث في خطين متوازيين، أحدهما سياسي والآخر اجتماعي حتى تبلغ ذروتها بمقتل الابن الأكبر عمر أثناء مظاهرة للمطالبة بحق عودة أهل النوبة إلى موطنهم الأول على ضفاف النيل.
ومع تطور الأحداث يفسح المؤلف المجال أمام البطل الثاني معتصم للظهور بوضوح والتعبير عن تغيرات طرأت على جيل ولد وتربى وعاش بعيدا عن النوبة لكنه ظل حبيس العادات والتقاليد ولون البشرة المميز، ومع هذا الظهور تنشق طاقة مشاعر رومانسية تتدفق بين الشاب النوبي وفتاة قاهرية تزامله في العمل.
يأتي القسم الثالث والأخير بعنوان "العودة"، وفيه تعود الفروع التي نبتت بعيدا عن النوبة والمتمثلة في جيل الأحفاد إلى جذورها وأصلها في النوبة لتستقر بجوار أرواح الأجداد التي لم تبرح المكان رغم مرور العقود الطويلة.
صدرت الرواية عن دار دوّن في القاهرة، وهي الثانية للمؤلف (39 عاما) بعد الرواية البوليسية (فيجينير) الصادرة في 2015 والتي سبقتها مجموعة قصصية بعنوان "ذكريات للبيع" في 2012.
وينجح المؤلف إلى حد كبير في التمييز بين "الوطن" بمعناه التقليدي الذي يرتبط في الأذهان بالحدود الجغرافية الثابتة ليخرج بالقارئ إلى آفاق أرحب تشمل اللهجة والأفكار والذكريات ونمط الحياة والمعاني الحلوة التي يحملها كل إنسان داخله أينما ارتحل.
وبعد الانتهاء من قراءة الرواية يجد القارئ نفسه أمام عنوان جديد هو "تذييل" كتب تحته المؤلف "اكتشفت ذات يوم أننا -كمصريين- لا نعرف بعضنا البعض، ننفتح على العالم وثقافاته فنعرف عنه الكثير ولا ننفتح على أنفسنا ولا نعرف شيئا عن باقي المصريين، فلا نعرف شيئا عن أهل سيناء أو مطروح أو النوبة..". ويهدف الكاتب من ذلك إلى أن يجعل من هذه الرواية "تعارفا بين أبناء وطن لا يعرفون بعضهم البعض".