شنت دولة الاحتلال "الإسرائيلي" عدوانًا عسكريًا على قطاع غزة عام 2014م، تصدت له المقاومة الفلسطينية بكل ما أوتيت من قوة، وقد جرت خلاله مفاوضات عسيرة بين الوفد الفلسطيني المشترك ووفد الاحتلال "الإسرائيلي"، نتج عنها تفاهمات لوقف إطلاق النار بعد (51) يومًا من العدوان. وقد قام الباحث بعقد مقابلات مع عدد من أعضاء الوفد الفلسطيني المفاوض، خلال إعداده لرسالة الماجستير، تناول خلالها مجريات تلك المفاوضات التي عقدت في القاهرة، واستطاع الحصول على بعض ما دار فيها من كواليس، وتحديدًا بين أعضاء الوفد الفلسطيني المشترك، وهو ما سنعرض له في هذا المقال.
يذكر القيادي في حركة حماس وعضو الوفد الفلسطيني المفاوض د. خليل الحية بعض المواقف التي حدثت بين أعضاء الوفد المشترك، والتي يظهر من خلالها حالة عدم الوفاق بين أعضائه، فيقول: "في بداية المفاوضات جاء عزام الأحمد ليحسم بعض القضايا داخل الوفد من خلال التصويت عليها، وفي أحد الأيام أراد أن يتخذ قرارًا بالتصويت، وكان الرأي الغالب من قبل أعضاء الوفد لصالحه، وفي اليوم التالي اختلف الوفد وأعاد التصويت على نفس القضية، فمالت النتيجة إلى رأي حماس والجهاد، فعدل بعدها عن استخدام التصويت مرة أخرى، حينها قال عزام الأحمد: "وفد حماس والجهاد جايين متفقين ومرتبين حالهم!"".
يضيف د. خليل الحية: "عرض علينا "عزام الأحمد" في يوم استهداف عائلة القائد محمد الضيف، رفع الحصار ووقف العدوان بشرط إيقاف حفر الأنفاق، وبدأ يفاوضنا داخليًا على وقف العمل في الأنفاق الهجومية، وقالها بصريح العبارة:
الأحمد: "انت أُحفر مثل ما بدّك.. عندو وقف.. السلك ووقف" (يقصد الحدود مع الاحتلال).
الحية: "إلنا أيام واحنا بنقاتل.. وهذا من أسباب القوة عندنا، بدك أعطيه للعدو ببلاش؟!"
الأحمد: "آه يا عمي! إنت كيف بتدخل في أرضهم؟ وبأي حق بتحفروا أنفاق هجومية في أرضهم؟!" الحية: أرضهم!! الأحمد: آه أرضهم!
الحية: اسمع يا عزام و يا ماجد فرج؛ إذا انتو جايين تناقشوا سلاح المقاومة، احكولنا لنفهم.
فرج: لا لا لا.. الحية: الأنفاق أهم أدواتنا في هذه المرحلة، سَكْرو على الموضوع".
يكمل الحية موضحًا: "يومها قلنا أننا وفد فلسطيني مُوحد، جئنا لوقف إطلاق النار وكبح جماح العدو ورفع الحصار، وإذا كان عزام الأحمد، يريد طرح السلاح للتفاوض الداخلي فأخبرونا، وكما أن العدو لا يوجد ما يمنعه من تطوير قدراته؛ فمن حق المقاومة امتلاك أدواتها وتطويرها، حينها تدخل مدير المخابرات الفلسطينية ماجد فرج ونفى طرح موضوع السلاح، فطلبنا سحب هذا العرض، وعدم طرحه مرة أخرى.. كانت المسألة الثانية الخلاف حول موضوع الموظفين والرواتب، فكانت هناك حالة افتراق في الوفد، وتحديدًا في شروطنا حول الشأن الداخلي، وكان الاحتلال والمصريون جاهزون لأن يتم وضع حل للموظفين في غزة، واستيعابهم ودفع رواتبهم في أي اتفاق، لكن وفد فتح ومن معه كانوا يرفضون ذلك وبكل قوة!".
بدوره قال عضو الوفد المفاوض عن حركة حماس م. زياد الظاظا: "كانت المشكلة أننا كوفد فلسطيني نجلس نتفاوض في قضايا فيما بيننا، ليوم ويومين وثلاثة، حتى نخرج بالتوافق على صيغة معينة، ثم نأتي للتفاوض مع الإخوة المصريين، سواء مع مسؤول الملف آنذاك وزير المخابرات اللواء محمد التهامي، أو اللواء وائل الصفتي، بعد ذلك يتفاوض الإخوة المصريون مع الاحتلال، ثم تعود الكَرّة من جديد، وعلى هذا الديدن استمرينا فترة طويلة دون أن نصل إلى أي تفاهم، وكأنه نوع من شراء الوقت في غير صالحنا".
يضيف م. زياد الظاظا: "كان عزام الأحمد ومجموعته يرفضون حتى المطالب الوطنية الفلسطينية والأساسية، فعلى سبيل المثال نحن رفضنا أن تكون هناك وساطة دولية في دخول السلع والبضائع ورفع الحصار عن غزة، لكن كان لديهم إصرار على ذلك، نحن طالبنا أن يرفع الحصار المالي عن غزة، والسماح بدخول وخروج الأموال عبر البنوك، ودخول مواد البناء، وقد وافَقَنا الجانب المصري في ذلك، وفق المسودة التي قدمها وزير المخابرات المصرية تحديدًا في اللقاء الأول معه، والذي استمر من الساحة 11:00م وحتى الساعة 7:00ص من اليوم التالي -وكانت تلك المسودات غير موقعة وغير مُروّسة- وكان وفد فتح يعتبرها قضية داخلية، فرفض رفع الحصار المالي كاملًا. كذلك كان ماجد فرج يعقد اتفاقيات من ورائنا مع الاحتلال والمصريين، ثم حينما نجلس مع الإخوة المصريين نتلقى الرفض، وتصبح مطالبنا قد ذهبت هباءً، كذلك كنا نكتب في نص المقترحات والعروض والتعديلات عليها: (دخول جميع مواد ومستلزمات البناء والتشييد)، وكنا دقيقين في الصياغة، لكن كان يأتي الرد بضرورة وجود وساطة وآلية دولية، والخلاصة أنه جاءنا رفض لكل تلك المطالب".
يؤكّد الحية أنه: "كان هناك إرهاق للمفاوض الفلسطيني، نتيجة قيام الجانب المصري بتقديم أوراق وعروض بشكل كبير ومكثف، كي نجيب عليها، وكي نقدم ملاحظاتنا عليها، وفي إحدى جولات التفاوض قدمت لنا (4) ورقات في يوم واحد، تتضمن مقترحات مختلفة، وكنا نرد عليها، لكن وقبل أن نقدم إجاباتنا أو ملاحظاتنا يصلنا مقترح جديد، وكنا في حماس والجهاد الاسلامي والجبهة الشعبية نرفض إدخال هذه المقايضة بين المواضيع المطروحة، وكان اتجاهنا واضحًا؛ وقف متبادل لإطلاق النار، يقابله حل لكل أزمات غزة، دون قيد أو شرط".
كما يؤكد الظاظا أن: "وفد المقاومة كان يفاوض (3) جهات: (السلطة والمصريين والاحتلال) في وقت واحد، كذلك كانت المفاوضات الفلسطينية-الفلسطينية هي الأصعب، وكانت هي المصيبة، وللتاريخ؛ فإن من يتحمل مسؤولية فشل المفاوضات، هو محمود عباس أبو مازن وجماعته، لأنه لم يكن حريصًا على مصالح الشعب الفلسطيني، بدليل رفض رفع الحصار المالي، وإصراره على موضوع الوسيط الدولي، إضافة إلى مواقف أخرى لها علاقة بتفاهمات 2012م، مثل موضوع الحدود وغيرها، فكان يطلب الموافقة على أن تكون فارغة على مسافة (300) متر، وكان يتكلم عن القدرات الدفاعية أو الهجومية، وكان ذلك مرفوضًا بالنسبة لنا".
وعن اللحظات الأخيرة للمفاوضات وقبل إعلان تفاهمات وقف إطلاق النار وفي اليوم (51) للعدوان، يقول الحية: "طلب الوسيط المصري عرض الصيغة الأخيرة للتفاهم الذي قدمناه لهم على عزام الأحمد، فقلنا لا مشكلة لدينا، بشرط أن لا يتم تغيير أو تبديل أي كلمة مما اتفقنا عليه، ثم أخبَرَنا الوسيط المصري بموافقة الأحمد، وأن الطرف "الإسرائيلي" أيضًا وافق عليه، واتفقنا على تحديد ساعة الصفر، وكانت عند الساعة 4:00م، وأبلغنا الميدان وقيادة الحركة في غزة بساعة الصفر، لكن للأسف؛ تفاجأنا بأن المصريين يطلبون منا أن تكون ساعة الصفر عند 7:00م، ولم نكن نعرف سر ذلك، بعدها تفاجأنا بأن ذلك كان بطلب من الأحمد وحركة فتح، كي يعلن أبو مازن الاتفاق، وبذلك أُعطى الاحتلال فرصة (3) ساعات إضافية، لكننا أبلغنا الأطراف كافة، وأكدنا وقف إطلاق النار من جهتنا، وحذرنا من اختراق العدو لهذه الساعات، وقمنا بالإعلان عبر وسائل الإعلام بأن وقف إطلاق النار يبدأ عند الساعة 4:00م، قبل أن يعلن أبو مازن عن ذلك".
يضيف الظاظا: "طلبت السلطة أن يؤجل إعلان وقف إطلاق النار حتى الــ7:00م، كي يتسنى لعباس أن يخرج بكلمة يعلن فيها وقف إطلاق النار، وكأنه بطلٌ مغوار، نحن رفضنا ذلك وطلبنا أن يبدأ وقف إطلاق النار عند الساعة 4:00م، كي يتمكن الفلسطينيون في غزة من الخروج وتفقد أمورهم، فوافق الجانب المصري على ذلك، وقمنا بتسريب هذا الخبر، وأكدنا أن وقف إطلاق النار سيكون عند الساعة 4:00م، كي لا نعطي الفرصة لعباس بأن يتألق، وهو الذي كان دائمًا ضد قضايا الشعب الفلسطيني، وهو الذي كان يطالب الاحتلال دائمًا باستمرار عدوانه على القطاع.. كذلك فإن تفاهمات وقف إطلاق النار لم تخرج في أي ورقة، ولم تخرج ببيان رسمي، لا من طرفنا، ولا من طرف الاحتلال، ولا من طرف المخابرات المصرية، وإنما خرجت كخبر عبر وكالة الشرق الأوسط للأنباء، وبدون تفاصيل".
وينصح الظاظا قائلًا: "محمود عباس هو من يتحمل مسؤولية إطالة أمد العدوان، ولو لم يكن لعباس يد في الوفد الفلسطيني المفاوض؛ لاستطاعت حماس وفصائل المقاومة أن تحقق إنجازًا أكبر، ونصيحتي لقيادة حماس مستقبلًا أن لا تقبل بأي عضو من أعضاء مجموعة عباس في أي وفد مفاوض في أي قضية من قضايا الشعب الفلسطيني".
مما سبق يتضح مدى صعوبة وتعقيد تلك المفاوضات، وكيف أن وفد حركة حماس والمقاومة كان يفاوض ثلاث جبهات: فتح وفصائل المنظمة من جهة، والمخابرات المصرية من جهة، والاحتلال "الإسرائيلي" من جهة أخرى. والمستغرب أن ما كان يُعرض على حركة حماس لم يكن منطقيا، وللأسف كانت تلك العروض تقدم من قبل أعضاء الوفد الفلسطيني المشترك، والذي لم يكن موحدًا في أهدافه. وقد حاول الباحث إجراء مقابلات شخصية ومقابلات بالمراسلة مع أعضاء وفد السلطة وباقي الفصائل، لاستيضاح كثير من الأمور، ولأخذ آرائهم وردودهم على ما سبق ذكره، لكن تعذر ذلك لأسباب مختلفة، تنوعت ما بين عدم الرد أو الاعتذار.
ختامًا؛ فإننا من على هذا المنبر ندعو إلى إعادة تقييم تجربة المفاوضات السابقة، والتي خاضتها المقاومة الفلسطينية مع الاحتلال "الإسرائيلي"، والوقوف على الإيجابيات والسلبيات، والاستفادة من الدروس والعبر. ولا بُدّ من تعزيز خيار المقاومة مصحوبًا بالمفاوضات الجادة، فهو الخيار الأمثل لتحقيق مطالب الشعب الفلسطيني، فنحن بحاجة إلى تطوير قدراتنا العسكرية كي نـؤثر في ميزان القوى على طاولة المفاوضات، والتي يجب دعمها في قطاع غزة وتفعيلها في الضفة الغربية. كذلك ضرورة توسيع الدائرة التفاوضية لتشمل جميع الأطر والفصائل الفلسطينية التي تؤمن بمنهج المقاومة، وعدم الاقتصار على شخصيات أو فصائل معينة، والاستعانة بالكفاءات الفلسطينية من الداخل والخارج، والتكامل والتزامن والتفاعل بين الخيارات والامكانات المتاحة كافة.