في وقتٍ تحرز فيه الخطة الأميركية – الإسرائيلية المسمّاة "صفقة القرن"، أو صفقة ترامب – نتنياهو؛ الهادفة إلى تصفية المسألة الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية تقدما، يتراجع الموقف الفلسطيني، ومن قبله العربي، من دون أن يحرزا أي نقطة منفردة أو مشتركة لصالح أيٍّ منهما؛ الأمر الذي أوجد تربة خصبة للدعوة، ولمحاولة تطبيق مخطط الاستيلاء على المسجد الأقصى، وفرض خطة تقسيم زماني ومكاني، استتباعا لقرار القدس الترامبي، وسياسته المشجعة على تهويد القدس عاصمة لإسرائيل، ولاحقا تهويد كامل الضفة الغربية، وتشريع الاستيطان فيها، وبالتالي جعل "حل الدولتين" مجرّد كابوس انقضى، والمفاوضات مجرّد حلم كابوسي لا أمل بالعودة إليها، طالما اليمين الفاشي في إسرائيل واليمين الشعبوي في الغرب يتماديان في محاولة استعادة نفوذ من سُموا يوما المحافظين الجدد، وما "ملكت أيمانهم" من إمكانات الهيمنة والإخضاع، واستعادة النزوع الإمبراطوري للسيطرة على الاقتصاد والتجارة والأمن عبر العالم، بعد لأي من الزمن، كانت شارفت الهيمنة الإمبريالية الغربية، بزعامتها الأميركية، على أن تفقد بوصلتها الموجهة، جرّاء سياسات اقتصادية ومالية وعسكرية وأمنية، كادت تودي بها إلى الانهيار، لولا توثيق عرى التحالفات الإقليمية العربية معها، وعودة ضخ المال العربي بجنون، لصالح أهداف إيجاد أعداء جدد، في مقابل التعاطي مع العدو الإسرائيلي، كونه الصديق الصدوق لأنظمة ريعية، تقامر بأموال شعوبها على مذبح سياساتٍ سلطويةٍ محكومة لجنون عظمةٍ، لا تقل عن جنون عظمة ترامب، وعنصريته المتفلتة من كل ضوابط الأخلاق والقيم الدبلوماسية والإنسانية.
في مثل هذا الوضع الأكثر توتيرا وإرهابا، واتساعا بالحض والدفع نحو تنفيذ أعمال شتى إرهابية، على خلفية من الكراهية والعداء المطلق طائفيا وعرقيا وأيديولوجيا، في ظل زيادة منسوب الطلب على نشر القيم العنصرية والفاشية، على مستوى العالم، كما على مستوى الإقليم وفي عديد من فناءات السلطات المحلية الحاكمة، فقدت السياسات الوطنية كل مفاعيلها وتأثيراتها، ليس في واقع بلدانها، بل وفي واقع كان يحتم وجود سياسات تضامنية مع قضايا ومسائل وطنية، في مقدمتها قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، ولكن ما نشهده اليوم لم يعد يلبي أي طموح تضامني، بقدر ما أصبحنا نشهد انفضاضا يتسع باضطراد من حول قضية وطنية، لم تعد تجد حتى لدى أصحابها السلطويين، تلك الروح التحرّرية التي تتسم بها طبيعة الحركات التحرّرية عادة وعلى الدوام، علاوة على انفضاضات عربية شقيقة وإقليمية غير عربية وذات طابع دولي، جميعها اتجهت اتجاهات استاتيكية، أو توجهات زبائنية ومصلحية مشتركة مع قوى دولية وإقليمية محلية معادية لشعوبها ولقضايا شعوبنا العربية، وبضمنها قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية.
وهكذا في ظل المهمة التكبيلية التي حملتها اتفاقات أوسلو، بكل جوانبها العلنية والسرّية، وما أفرزته من نظام سلطوي وقواعد زبائنية، لم تعد تجدي تلك السياسات التي تنتهجها السلطة الفلسطينية، ولا حتى القرارات التي يعلن عنها، من قبيل الخاصة بوقف العمل بالاتفاقات الموقعة في إطار "أوسلو" مع إسرائيل وبروتوكول باريس. وللدلالة على عدم أهمية ما جرى الإعلان عنه، غياب أي ردة فعل من جانب حكومة نتنياهو، في حين تجاهلت إدارة ترامب ذلك أيضا، وواصل فريقها الخاص بصفقة القرن الأميركية – الإسرائيلية، إشغال ذاته بخطط تحركاته المسبقة سلفا، من دون عناء إصدار أي تعليق.
يلاحظ في هذا السياق أن التجاهل الإسرائيلي – الأميركي للقرار الرئاسي الفلسطيني نابع من تقدير أصحابه، أنه ليس الأول غير القابل للتنفيذ، فقد سبقته قراراتٌ لا تحتمل التأويل، وما كان ينبغي أن تخضع للتأجيل، من قبيل قرارات المجلسين، المركزي والوطني، وقد خضعت لدراسة أكثر من عشر لجان. وعلى الرغم من ذلك، ما زالت تلك القرارات مجرّد حبر على ورق، في حين لم تجد السلطة ما تبرّر به موقفها من عدم تنفيذ تلك القرارات، وبالتالي سيبقى عدم تنفيذها، نقيصةً لا يمكن تبريرها أمام الجمهور الفلسطيني، في حين لا تعدم السلطة مبرّراتها أمام الاحتلال، على الرغم من رفض الأخير أي شكل من الشراكة مع السلطة، سوى التي تفيد الاحتلال، كالتنسيق الأمني ومخاطره وأضراره ضد أبناء الشعب الفلسطيني.
وفي الجانب السياسي، لا وجود لأي نيات إسرائيلية لإقامة أيٍّ من أنواع الشراكة السياسية أو التفاوضية، في ظل مرحلة من أسوأ مراحل العمل السياسي اللاتفاوضي وأردأه، بتشجيع ترامبي مسبق، وبحض من إدارته على تجاهل الحوار مع السلطة الفلسطينية، واستبدال ذلك كله بسياسات إملاء وإخضاع ومهاناتٍ لا حصر لها، ليس تجاه الفلسطينيين وحدهم، بل ومعهم أشقاؤهم العرب، من حيث اعتياد بعضٍ منهم على المهانة والازدراء والاستعلاء العنصري والكولونيالي، من أطراف الشراكة العنصرية والفاشية، الصاعدة هذه الأيام بقوة الكراهية والإقصاء المطلق والإرهاب الإجرامي، امتدادا من ساحات العالم وميادينه، وصولا إلى عقر دار الجنون الترامبي ومتلازمات إرهابه الشعبوي المرضي.
بعد هذا كله، هل تستطيع القيادة الفلسطينية أن تقدم بديلا لأوسلو، وهي صنيعة تلك الاتفاقيات، وهي "قيمة عليا" في نظر نفسها، وعلى العكس من ذلك في نظر أعدائها الساعين إلى إفقادها كل شرعية تمثيلية، وكل إمكانية بإقامة أيٍّ من أنواع الشراكة السياسية أو التفاوضية، ولعل
أطراف الصفقة الترامبية – الإسرائيلية، ومن لف لفهم من عرب عاربة ومستعربة، مطمئنون إلى أن القيادة الفلسطينية أعجز من أن تنفذ قرار وقف العمل بالاتفاقيات، لأن لا بديل لديها، أو لأنها لا تريد أن تتحمل تبعات أي بدائل غير متأكّدة من مترتباتها وتداعياتها، وما يمكن أن تفضي إليه من استحقاقات. هذا عوضا عن أن تعرّض بدائل "أوسلو"، يمكن أن تفضي إلى إمكانية إطاحة السلطة، وإزاحتها من طريق تقدم مخطط ترامب – نتنياهو، وهو المخطط الذي بدأ بقرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولم ينته بعد، عبر ما نشهده، هذه الأيام، من محاولات اقتحام والاستيلاء على المسجد الأقصى، وفرض سياسة تقاسم زماني ومكاني، في محاولة تمهيدية لتهويد مدينة عربية كنعانية وأسرلتها، يشهد لها ما فوق الأرض وما تحتها.
هكذا تتقدم سياسة الخطوة – خطوة الكيسنجرية على الأرض، من دون الإعلان عن الخطوة أو الخطوات التالية، في حين يواصل الوضع القيادي الفلسطيني إرباكاته، وافتقاره لموقف الحسم الضروري اللازم، في ظرفٍ من أشد الظروف حلكةً وسوادا، تستدعي تنفيذ سياسات وطنية متفق عليها، يجري التهاون في تطبيقها وتنفيذها، قبل أن تواصل "سياسة الصدمة والترويع" الترامبية – الإسرائيلية قيادة المنطقة نحو مجاهل الصفقة، بالتحلّل من أعباء الاحتلال الكولونيالي، ودفع النظام الرسمي العربي باتجاه إنهاء العداوة معه بوصفه عدوا تاريخيا، والانتقال نحو اصطفافات تحالفية مستجدة، باختلاق أعداء أكثر عداوةً من إسرائيل، بالتقليل من شأن تلك العداوة، والاصطفاف في تحالف واسع ضد أخطار نظام الملالي، وهو يقود المنطقة والإقليم باتجاه انشغالاتٍ أقل خطرا من الخطر الإسرائيلي الداهم، وفقا لطلب ترامب المستعجل، في ظل حروب تقاسم النفوذ في المنطقة، وما قد تجرّه من حروب اقتصادية وتجارية وأمنية وإرهابية أوسع عبر العالم.
أخيرا، يمكن القول إن ليس هناك بدائل فلسطينية واضحة لاتفاقات أوسلو، بل هناك عجز واضح تماما عن اجتراح بدائل ناجعة، الأمر الذي يجعل من خطوات الصفقة الترامبية – الإسرائيلية تفتقد أي استجابة لأي من الاحتياجات الفلسطينية، فيما هي تسعى، وبوضوح، نحو تلبية الاحتياجات والطموحات الإسرائيلية، المدعومة أميركيا، وبشكل مطلق.
العربي الجديد
أي بدائل لأوسلو فلسطينيا؟
ماجد الشيخ