في وقت متزامن تقريبًا، استهدفت إسرائيل يومي 24 و25 آب/ أغسطس 2019، مواقع مرتبطة بإيران في كل من سورية والعراق ولبنان، في تصعيد جديد لمستوى المواجهة بين الطرفين، والتي باتت تمتد على مساحة المشرق العربي، بعد أن ظلّت مقتصرة، في الأعوام الأخيرة، على استهداف الوجود الإيراني على الساحة السورية. وكان لافتًا في الهجمات إعلان إسرائيل رسميًا عن بعضها، وتبني بعضها الآخر، كما جاء في تصريحات الناطق بلسان جيش الاحتلال الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، وكذلك التهديدات التي أطلقها كل من رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزير الأمن بنيامين نتنياهو، ورئيس هيئة أركان الجيش، أفيف كوخافي، ما يعني خروجًا عن نهج الغموض الذي اتبعته إسرائيل في استهدافها إيران وحلفاءها خلال السنوات الماضية.
الأهداف الإسرائيلية
استهدفت الطائرات الإسرائيلية، ليلة 24 آب/ أغسطس 2019، موقعًا قرب بلدة عقربا، جنوب شرقي دمشق، ادّعت إسرائيل أنها دمرت خلاله مجموعة من الطائرات المسيرة الإيرانية، كانت تستعد لشن هجمات ضدها، ردًّا على قصف أهداف إيرانية في العراق، خلال الأسابيع القليلة الماضية. وبعد ذلك بنحو ساعتين، أي فجر 25 آب/ أغسطس، هاجمت طائرتان مسيّرتان أهدافًا في الضاحية الجنوبية في بيروت، ادّعت وسائل إعلام إسرائيلية أن لها علاقة بعملية تحسين دقة الصواريخ البعيدة المدى التي يملكها حزب الله. وفي حين كان الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، يلقي خطابًا يتوعّد فيه بالرد، هاجمت طائرات إسرائيلية مواقع لصواريخ إيرانية حديثة على الجانب العراقي من الحدود العراقية - السورية؛ ما أسفر عن تدميرها. وبعد ذلك بعدة ساعات، هاجمت طائرات إسرائيلية موقعًا عسكريًا في منطقة قوسايا، في البقاع اللبناني، تتبع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، وتدّعي إسرائيل أنها تُستخدم ممرًّا لتهريب السلاح من سورية إلى حزب الله في لبنان.
حسابات إسرائيل
يُعَدُ الهجومان اللذان استهدفا لبنان خرقًا لقواعد الاشتباك المتفاهم عليها ضمنيًا بين إسرائيل
"فشلت إسرائيل في ثني إيران عن الاستمرار في محاولات تعزيز وجودها العسكري في سورية حتى الآن" وحزب الله منذ حرب تموز/ يوليو 2006، وهو ما هدّد حزبُ الله بالرد عليه بقوة؛ ما قد يفتح الباب لتصعيد أكبر، خصوصًا إذا كان المقصود من الاعتداءين محاولة إسرائيلية لتدشين مرحلة جديدة من التعامل مع حزب الله، بحيث تستبيح إسرائيل الأراضي اللبنانية كما تستبيح الأراضي السورية (وأخيرا العراقية) بذريعة منع تكريس الوجود العسكري الإيراني فيهما.
وعلى الرغم من رفع مستوى التصعيد، والمجازفة بفتح مواجهة مع إيران وحلفائها في المنطقة، فإن إسرائيل لا تسعى، على ما يبدو، إلى مواجهة عسكرية شاملة مع حزب الله في هذه المرحلة بالذات. ويبدو أن إسرائيل أدركت، عندما أقدمت على هذه الخطوة، أن حزب الله وإيران أيضًا لا يريدان هذه المواجهة، خصوصًا في هذه المرحلة التي يخضعان فيها لضغوط أميركية شديدة، وتقدّر إسرائيل أن رد حزب الله سيكون محدودًا إن نُفِّذ، وأنها قادرةٌ على التعامل معه من دون أن يؤدي بالضرورة إلى مواجهةٍ شاملة. وكان حزب الله قد ردّ على اغتيال إسرائيل جهاد مغنية وضابط إيراني آخر في جنوب سورية، عام 2015، من خلال تنفيذه عملية عسكرية في سفوح جبل الشيخ، أدت إلى مقتل جنديين إسرائيليين. ولم ترد إسرائيل حينذاك على هذه العملية.
ويسعى نتنياهو من خلال هذا التصعيد، على ما يبدو، إلى الضغط على حزب الله عسكريًا، إضافة إلى الضغط السياسي والاقتصادي والدبلوماسي الذي تمارسه واشنطن عليه، لعرقلة أو وقف تعزيز ترسانته الصاروخية، وتحسين قدراتها على إصابة الهدف. ويستند نتنياهو، في تصعيده المحسوب، إلى فائض القوة الذي تملكه إسرائيل، وإلى الضعف الذي أبداه ما يسمى "محور المقاومة" في مواجهة استباحة إسرائيل الأراضي السورية والعراقية، وإلى الدعم الأميركي الكبير لإسرائيل، في مرحلةٍ تضغط فيها واشنطن بشدّة على إيران لدفعها إلى التفاوض والتخلي عن برنامجها الصاروخي. ومن الواضح أن إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تتصرف في هذا السياق، وكأنها تتبع أجندة إسرائيلية.
إلى جانب ذلك، بات نتنياهو الذي يشغل، إضافة إلى رئاسة الحكومة، منصب وزير الأمن يتمتع بسلطات واسعة بخصوص قرار شن عمليات عسكرية كبرى، بل حتى اتخاذ قرار بالحرب، سيما بعد التغييرات التي حصلت في تركيبة مجلس الوزراء المصغر (الكابينت الأمني السياسي)؛ إذ لا توجد فيه معارضة تُذكر لنتنياهو، وكذلك في رئاسة هيئة أركان الجيش الإسرائيلي، فمنذ بداية هذا العام (2019) تبوأ هذا المنصب أفيف كوخافي، والذي يحسب على الصقور في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، ويتخذ مواقف تصعيدية في ما يخص إيران وحلفاءها. ومع ذلك، يضم مطبخ نتنياهو الأمني – العسكري رؤساء الشاباك والموساد وهيئة الأمن القومي، وجميعهم مقرّبون م
ن نتنياهو. ومن الواضح أيضًا أن نتنياهو، لأسباب انتخابية بيّنة، يتعمد توضيح أنه هو صاحب القرار في شن هذه الهجمات ضد أهداف إيرانية على امتداد المنطقة، والظهور بمظهر رجل إسرائيل القوي الذي لا يتردّد في اتخاذ قرارات كبرى لحماية أمن إسرائيل.
مراحل تصعيد الاعتداءات الإسرائيلية في سورية
منذ اندلاع الثورة في سورية، والتي حولها النظام السوري إلى حرب أهلية شاملة، مرّت
"يرجَّح أن إسرائيل حصلت، قبل نحو شهرين، على موافقةٍ أميركية بقصف مخازن الصواريخ الإيرانية" الاعتداءات الإسرائيلية ضد أهدافٍ مرتبطة بإيران وحزب الله في سورية بأربع مراحل رئيسة. شملت الأولى التي بدأتها إسرائيل، في سنة 2012، قصف الطائرات أهدافًا مرتبطة بنقل أسلحة متطورة من سورية إلى حزب الله في لبنان، مثل صواريخ أرض - أرض بعيدة المدى، وصواريخ أرض – بحر، ومنظومات للدفاع الجوي، وطائرات مسيّرة. وفي المرحلة الثانية، وسعت إسرائيل دائرة أهدافها، فأصبحت تستهدف القوات الإيرانية وقوات حزب الله والمليشيات التابعة لإيران في جنوب سورية، لإبعادها عن الحدود السورية – "الإسرائيلية". وفي المرحلة الثالثة، أضافت إسرائيل إلى أهدافها مواقع الوجود العسكري الإيراني الدائم في مجمل الأراضي السورية، وشرعت في تنفيذ ذلك في أواخر سنة 2017، ووضعته في قمة أولوياتها ساعية إلى وضع حد له. أما في المرحلة الرابعة فقد وسّعت إسرائيل من مجال اعتداءاتها منذ تموز/ يوليو 2019 لتشمل أهدافًا عسكرية إيرانية في العراق، وخصوصا الصواريخ الإيرانية بعيدة المدى والمصانع العسكرية الخاصة بإعادة تركيبها وإنتاجها، قبل أن توسع دائرة استهدافها لتشمل لبنان.
وعلى الرغم من الهجمات الإسرائيلية المكثفة التي تناولت الوجود العسكري الإيراني في سورية، والخسائر التي تكبدتها، فشلت إسرائيل في ثني إيران عن الاستمرار في محاولات تعزيز وجودها العسكري في سورية حتى الآن، وعن وقف نقل أسلحة متطورة إلى حزب الله عن طريق سورية، مع أن إيران نقلت مركز ثقلها العسكري من مطار دمشق إلى مطار "التيفور" بالقرب من حمص، البعيد نسبيًا عن الحدود الإسرائيلية.
استهداف العراق
ازدادت في الشهور الأخيرة تسريبات صحافية، مصدرها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، تزعم أن إيران قامت، في أواسط 2018، بتزويد المليشيات الموالية لها في العراق بصواريخ أرض - أرض من نوع "زلزال" و"فاتح 110"، والتي يراوح مداها بين 200 إلى 700 كيلومتر؛ ما يعني أن في مقدورها الوصول إلى أي هدف في إسرائيل من نقاط تمركزها في غرب العراق. كما ورد أن إيران أنشأت عام 2016 مصانع في العراق لإعادة إنتاج وتركيب هذه الصواريخ التي يتم نقلها على شكل قِطَع من إيران، وأن هذه الصواريخ أكثر تطوّرًا ودقةً في إصابة الهدف من الصواريخ التي يملكها حزب الله اللبناني. وتقدّر المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أن الوجود العسكري الإيراني في العراق بات يشكل تهديدًا كبيرًا لأمن إسرائيل، وأن إيران تخطط لإنشاء جبهة جديدة لاستخدامها ضدها عند الحاجة، تضاف إلى الجبهات القائمة حاليًا في سورية ولبنان وقطاع غزة. وتزعم مصادر مختلفة أن إيران شرعت، في الشهور الأخيرة، في تعزيز قوة المليشيات العراقية الموالية لها في أعقاب تكثيف إسرائيل هجماتها على الوجود العسكري الإيراني في سورية.
ويبدو أن إسرائيل بذلت، في الشهور الأخيرة، جهودًا لدى ترامب وأركان إدارته؛ من أجل السماح لها بضرب الصواريخ الإيرانية المتطوّرة التي تم نقلها إلى العراق، وكذلك استهداف المصانع التي (وفق زعمها) تنتج أو تعيد تركيب الصواريخ بعيدة المدى الخاضعة للمليشيات العراقية الموالية لإيران. ففي زيارته بغداد في أيار/ مايو 2019، عرض وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، على رئيس الحكومة العراقية، عادل عبد المهدي، صور التقطت من الجو لمخازن صواريخ إيرانية، ومصانع أسلحة تعمل لصالح إيران، موجودة في العراق تحت سيطرة الحشد الشعبي. وطلب منه إزالتها من العراق، وأوضح له أنه إذا لم تُزَل، فربما تُقصَف. كما دعا بومبيو رئيس الحكومة العراقية إلى حل المليشيات الموالية لإيران في العراق، وإلى دمجها في الجيش والمؤسسة الأمنية العراقية، بما يضعها تحت سيطرة الدولة العراقية.
ويرجَّح أن إسرائيل حصلت، قبل نحو شهرين، على موافقةٍ أميركية بقصف مخازن الصواريخ الإيرانية، وبعض مصانع الصواريخ التي تعمل لصالح المليشيات الموالية لإيران في العراق؛ إذ من المستبعد منطقيًا أن تقوم إسرائيل بهذه الهجمات من دون موافقة أميركية، في ضوء خضوع العراق المطلق للهيمنة الجوية الأميركية.
وقد شنت إسرائيل في الشهرين الماضيين خمس هجمات، على الأقل، على أهداف إيرانية في
"قد يكون صعبا أن تستمر هذه الهجمات على العراق فترة طويلة؛ فالوضع في العراق يختلف عن الوضع في سورية" العراق، في 19 و28 تموز/ يوليو، وفي 12 و20 و25 آب/ أغسطس 2019. وعلى الرغم من أن إسرائيل لم تعلن رسميًا مسؤوليتها عن هذه الهجمات، فإنها لم تنف، في المقابل، ذلك (فهذا أسلوب إسرائ
يل؛ أي إن عدم النفي يعني الإيجاب)، بل ألمح نتنياهو، في أكثر من مناسبة، ومسؤولون إسرائيليون آخرون، ووسائل الإعلام الإسرائيلية، إلى مسؤولية إسرائيل عن هذه الهجمات، وأنها ستستمر في شنّها ما دامت هناك ضرورة للقيام بها. كذلك أكد مسؤولون أميركيون لصحيفة نيويورك تايمز أن إسرائيل هي التي قامت بهذه الهجمات في العراق.
خاتمة
وسّعت إسرائيل دائرة استهدافها للمصالح والأهداف الإيرانية أو المرتبطة بإيران، فلم تعد تقصرها على الساحة السورية، بل امتدت لتشمل العراق، ولبنان أيضًا. وفي حين لا يجوز تجاهل أهمية الاعتبارات السياسية الداخلية في إسرائيل التي يخوض رئيس حكومتها انتخابات صعبة في 17 أيلول/ سبتمبر المقبل، فإن من الخطأ الاعتقاد أن ما تفعله إسرائيل مرتبط كليًا بهذه الانتخابات، وأنه سيتوقف بعدها؛ فثمّة توجه استراتيجي، يوجه عمل المؤسسة الأمنية والعسكرية في إسرائيل، بغض النظر عن نتيجة الانتخابات المقبلة، للاستفادة من الظروف الإقليمية والدولية المواتية (دعم أميركي مطلق، تواطؤ روسي، تطبيع بعض الدول العربية) لتحقيق أهداف بعيدة المدى لإضعاف النفوذ الإيراني على امتداد المنطقة، وكذلك الاستفادة من ضعف قدرة ايران وحلفائها على الرد، بعد أن بدّدوا رصيدهم وطاقاتهم في مواجهاتٍ طائفية، حولت بعض الثورات العربية إلى حروبٍ أهلية صبت في مصلحة إسرائيل.
بناء عليه، لا يتوقع أن تؤدي الاعتداءات الإسرائيلية أخيرا في ثلاث دول عربية إلى مواجهة كبرى، لعدم رغبة الطرفين فيها في هذا الوقت على الأقل، فحزب الله يعد نفسه قوّة احتياط لردع إسرائيل عن القيام بضرب إيران، إلى جانب حماية نفسه ولبنان. كما أنه، وكذلك إيران، غير معنيين بحرب مع إسرائيل في هذه المرحلة. وأي ردة فعل من حزب الله ستكون محدودة، وغايتها منع إسرائيل من تغيير قواعد الاشتباك، واستباحة لبنان كما تفعل في سورية والعراق. أما ما يخص الهجمات الإسرائيلية في العراق، فمن المرجّح أن تستمر إسرائيل فيها، ما دام ذلك يصب في خانة الضغوط الأميركية على إيران، وما دام الضوء الأميركي الأخضر قائمًا. ومع ذلك، قد يكون صعبا أن تستمر هذه الهجمات على العراق فترة طويلة؛ فالوضع في العراق يختلف عن الوضع في سورية، وثمّة إمكانية أن تقود هذه الاعتداءات إلى ردّات فعل من مليشيات عراقية موالية لإيران ضد أهداف ومصالح أميركية في العراق؛ ما قد يؤدي إلى منع واشنطن إسرائيل من الاستمرار فيها.