بقلم/ رشا فرحات
منذ بدأت أفكاره تعرف طريقها إلى العد، اخذ يقسم حياته إلى أقسام متساوية، ويعد أيامها يوما بعد يوم، ولكل أيام عدد وساعات يحسبها عدا وكأنه آلة حسابية تحسب العمل بالأرقام، فذلك كان زمن الطفولة الغضة، وذلك زمن الشباب وذلك زمن النضوج الجميل..وهذا ..زمن آخر، توقفت عقارب الساعة بطيئة على بابه ونسي بعدها العد، فهو يرفض ان يحسب الأيام الآن، ويخاف عدها..
لا يقوى على وصف هذا الزمن، يقاوم هواجسه وأفكاره، ينظر إلى نفسه بالمرآة، يرفض الاعتراف بتلك التجاعيد، يرتب هندامه ترتيبا دقيقا، يصفف آخر شعرتين في رأسه بعناية فائقة، لباسه حسب الموضة الأخيرة حتى وان كانت لا تتناسب مع عمره..تدخل ابنته الصغرى حجرته، وتضحك..هذا اللون لا يناسبك يا أبي، لم تعد صغيرا..
ينهرها بشدة فتخرج..ويعاود ترتيب هندامه استعدادا للخروج، منذ خمس سنوات، وهو يمارس نفس الطقوس الصباحية، يخرج بوقت مبكر، يتشاجر مع زوجته قبل الخروج، لأنها لم توقظه مبكرا، فقد تأخر عن موعده كثيرا، تنظر إلى وجهه باستغراب، أي موعد يا رجل؟؟
تضحك..تهزأ، ثم تكمل نومها لا مبالية وبدون أي رغبة في سماع أي رد.
يلج مسرعا إلى الشارع وكأنه يتعمد الإسراع رافضا الاستسلام لأوجاع ركبتيه التي ما فتأت لا تفارقه منذ عشر سنوات، يدور في الشوارع، ينظر إلى المارة، يعاود التفكير في عمله السابق، لقد كانت صحته أفضل قبل خروجه إلى المعاش، لماذا يرفضون من هم في مثل سنه، ويصرون على انه عاجز عن العطاء، إن باستطاعته أن يعمل أكثر من شاب في العشرين، وما زال يتمتع بصحة ابن الثلاثين، تلتوي قدمه تحته موجعة، فيرفض الإحساس بالألم، يكذبه ويصر على السير مسرعا، يجلس على القهوة لاهثا، لا يعرف أحدا من الجالسين، على الرغم من انه أصبح زبونا دائما منذ عام، يواسي نفسه..لكنه ما زال شابا، ومن هم في مثل سنه لا يندمجون مع هؤلاء العجزة المقلبين لتلك الصحف.
ثم مع وقفة صادقة مع ذاته يختلس النظر إلى الرجال الجالسين، ويبدأ بعقد مقارنه بينهم، جميع مقارناته تنحصر في الجسم والطول والعرض والهندام، وعدد خصلات الشيب، ومدى استفحال الصلع في شعر ذاك أو هذا، ذلك يلبس نظارة طبية سميكة، وذلك لم يتوقف عن السعال منذ جلس إلى جانبه، أما ذلك الشاب فهو الأقرب إلى سنه ويمكنه التعارف إليه في وقت لاحق.
ثم يتوكأ مرتاحا مبتسما حينما يتوصل إلى حكم لصالحه في النهاية معلنا انه اصغر الجالسين سنا.
يتناول إفطاره الخالي من أي مكونات دهنية، لا بيض ولا حليب، ولا قشطه أو زبد..فنسبة الكولسترول ترتفع يوما بعد يوم، يخرج من جيبه حبة الضغط ويبتلعها مسرعا، فقد نسيها منذ يومين وتسببت له بألم وإرهاق كبير، بل وكاد أن يغمي عليه في الشارع لولا رحمة ربه..وهو يرفض نظرات الشماتة في عيناي زوجته كلما ذكرها بأن صحته ما زالت شبابا، ولتنظر لنفسها بالمرآة لتعرف أنها أصبحت عجوزا، لا مجال لمقارنته بها..
يعد الساعات الطويلة، يعتصره الضجر، فلم يتجاوز الساعتين منذ خروجه من المنزل، يذهب إلى المكتبة، يتناول الصحف، وبعضا من دواوين الشعر القديمة، يصر على المشي، يزداد الألم، يزداد الضجر، يعاود السير يتألم أكثر فقدماه لم تعد تحتمل..ينظر إليهما نظرة قهر ولكنه يستسلم في النهاية عائدا إلى بيته..