يواصل معسكر اليمين في الكيان الإسرائيلي برئاسة بنيامين نتنياهو وأنصاره شن هجمات متتالية على الجهاز القضائي الإسرائيلي على خلفية محاولات نتنياهو المنفلتة للنجاة من تهم الفساد الخطيرة التي تنذر باعتقاله. ويحذر مراقبون من نزع شرعية جهاز القضاء معتبرين ذلك تهديدا خطيرا على مناعة ومستقبل "الدولة".
وتصاعد التحريض بعدما أعلنت المحامية أورلي بن آري ـ غينزبيرغ، أنها قررت التراجع عن موافقتها وقبولها إشغال وظيفة المسؤول المباشر والأول عن النيابة العامة في الاحتلال، من خلال منصب القائمة بأعمال النائب العام استجابة لعرض تقدم به إليها وزير العدل أمير أوحانا (الليكود).
وأوضحت بن آري ـ غينزبيرغ، في رسالة خاصة وجهتها إلى الوزير أوحانا، أنها ترفض أن “تُدار على ظهري معركة تعود بأضرار إضافية على الجهاز القضائي، طالما كان بإمكاني منع ذلك” مضيفة أنها توصلت إلى قرارها هذا “على خلفية حملة صيد الساحرات التي تدور في الجهاز القضائي خلال الأيام الأخيرة، والتي جرى إقحامي فيها وجعلي جزءاً منها، رغماً عني وضد إرادتي، وذلك بعد ثلاثة عقود من العمل المهني المخلص في النيابة العامة”.
وختمت: “الأجواء التي نشأت في أعقاب اختياري تهدد بالمس بثقة الجمهور الواسع بالنيابة العامة وسحق هذه الثقة أكثر فأكثر. ورغم الثقة الكبيرة بها شخصيا، التي انطوى عليها قرار اختيارها لقيادة النيابة العامة في هذه الفترة بالغة الحساسية، إلا أنها ترى أن من الأنسب تفضيل المصلحة العامة ومصلحة الجمهور على طموحاتها الشخصية ولهذا، قررت التراجع عن موافقتها على إشغال هذا المنصب”.
ويوضح تقرير للمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية أنها بإعلانها هذا، وضعت بن آري ـ غينزبيرغ نهاية للأزمة السياسية ـ الحزبية الجديدة التي نشأت في "إسرائيل" ووقف في مركزها الجهاز القضائي وأذرعه المختلفة، كحلقة أخرى ضمن الحرب الشعواء المتواصلة منذ سنوات، والمتعددة الفصول والعناوين، التي يشنها اليمين الإسرائيلي عموماً، وحزبه الأكبر (الليكود) خصوصاً، ضد هذا الجهاز بمختلف مستوياته ومركّباته. وبقرارها هذا، خلّصت بن آري، عملياً، أطرافاً عديدة ومختلفة في السلطات المركزية الثلاث في "إسرائيل" من خطر الاستمرار في هذه المعركة والانزلاق فيها إلى ما قد يعود بأضرار جسيمة عليها جميعاً وبمستويات مختلفة.
تعيين غير مهني
وبدأت هذه الأزمة الجديدة بإعلان وزير العدل الإسرائيلي أمير أوحانا، أن اختياره قد وقع على المحامية بن آري ـ غينزبيرغ لإشغال منصب القائم بأعمال النائب العام للاحتلال، إلى حين تعيين نائب عام جديد دائم، خلفاً للنائب العام شاي نيتسان الذي أنهى مهام منصبه قبل بضعة أيام فقط، بعد ست سنوات من إشغاله.
كان من الواضح أن تعيين بن آري، التي تشغل حالياً منصب نائبة النائب العام في لواء المركز (وقد تنافست على منصب النائب العام في هذا اللواء مرتين اثنتين، لكنها أخفقت في كلتيهما)، هو تعيين مؤقت لثلاثة أشهر فقط، يمكن تمديدها لثلاثة أشهر إضافية أخرى إذا ما اقتضت الحاجة ذلك، حتى تعيين نائب عام جديد دائم، خاصة وأن حكومة انتقالية هي التي تقر هذا التعيين، لأنها غير مخولة بصلاحية تعيين نائب عام دائم.
ورغم كون التعيين مؤقتاً لثلاثة أشهر فقط، قوبل هذا الاختيار ـ حتى قبل عرضه على الحكومة للمصادقة عليه ـ بمعارضة شديدة وواسعة، خاصة من جانب النائب العام المنتهية ولايته، شاي نيتسان، لكن الأهم من جانب المستشار القانوني للحكومة، أفيحاي مندلبليت. كما عارضه، أيضاً، “مفوّض خدمات الاحتلال” دانيئيل هرشكوفيتش، المسؤول عن التشغيل في القطاع العام، معتبراً أنه “قد يزعزع عمل النيابة العامة وأداءها”، مشيراً إلى أن “وظيفتها السابقة لم تكن رفيعة بما تؤهلها لإشغال منصب النائب العام بالوكالة” وأكد في رسالة إلى الوزير أوحانا، أنه “ينبغي إلقاء هذه المهمة على شخصية من المستوى الأرفع في النيابة العامة، المقبول على المستشار القانوني للحكومة.
يشار إلى أن صحيفة “هآرتس” قد كشفت أن المستشار القانوني للحكومة، مندلبليت، سوف يعارض تعيين قائم بأعمال النائب العام، خلفاً لشاي نيتسان، إذا ما رأى أن “مرشح الوزير أوحانا غير جدير بإشغال المنصب”، موضحةً آنذاك أن مندلبليت عبّر، خلال مداولات داخلية مغلقة، عن خشية عميقة من أن وزير العدل الحالي، بل الحكومة الحالية كلها، سيعمدان إلى المس بأذرع تطبيق القانون من خلال هذا التعيين، وخاصة في ضوء لائحة الاتهام الجنائية الخطيرة التي قرر مندلبليت تقديمها ضد نتنياهو.
ونقلت “هآرتس” عن مندلبليت، خلال تلك المداولات، تأكيده القاطع أنه “لن يدافع عن مثل هذا التعيين إذا ما وُضع على طاولة المحكمة العليا في إطار التماس يُقدّم ضده. لكن أوحانا لم يكترث لهذه المعارضة وضرب بها عرض الحائط، حين أصرّ على اختيار أورلي بن آري لهذا المنصب من بين خمسة مرشحين بادر هو نفسه إلى نشر أسمائهم، غير أن اثنين منهم سحبا ترشيحهما.
وفي أعقاب إعلان الوزير أوحانا قراره بشأن اختيار أورلي بن آري لهذا المنصب، أعلن مندلبليت، في بيان علني، أنه يعارض هذا الاختيار ويرفضه لأن “بن آري لا تستوفي شروط هذا المنصب ولا تلبي متطلباته” وسمّى مندلبليت مرشحاً آخر (هو شلومو لامبرغر) وكان يؤيد هو اختياره لإشغال هذا المنصب.
وتطرق مندلبليت إلى ملفات نتنياهو الجنائية موضحاً أن “القائم بأعمال النائب العام يمتلك جميع الصلاحيات المخولة للنائب العام، بصورة قانونية، ابتداء من اليوم الأول في منصبه هذا. وعليه، فسيكون لزاماً عليها (بن آري) معالجة ملفات تخص شخصيات جماهيرية منتخَبة، إضافة إلى الجوانب القانونية المختلفة الخاصة بقرار تقديم لائحة اتهام جنائية ضد رئيس الحكومة”. وأضاف: “إنها قضايا بالغة الحساسية تستدعي درجة عالية جداً من الاستقلالية وعدم التبعية في تأدية مهمات هذا المنصب”.
تجميد التعيين
أثار هذا التعيين موجة من النقد والمعارضة في أوساط سياسية ـ حزبية وقضائية واسعة اعتبرته تعييناً غير مهني يأتي لخدمة أهداف سياسية ـ حزبية وشخصية في مقدمتها الانتقام من النيابة العامة والمستشار القانوني للحكومة و”تلقينهما درساً” على خلفية القرار الأخير بتقديم لائحة اتهام جنائية خطيرة ضد نتنياهو، ثم محاولة التأثير على مضمون لائحة الاتهام هذه، كما على كل ما يتعلق بالمداولات القضائية الخاصة بها، إضافة إلى محاولة التأثير على القرار المتوقع صدوره لاحقاً بشأن لوائح الاتهام في قضية الفساد الخطيرة الخاصة بشراء الغواصات الحربية من ألمانيا.
وضمن موجة المعارضة والرفض لهذا التعيين، توجهت “الحركة لنزاهة الحكم” في "إسرائيل" بالتماس عاجل إلى المحكمة العليا طالبتها فيه بإصدار أمر مؤقت يقضي بتجميد قرار التعيين ومنع تنفيذه ريثما يتم البحث في الموضوع برمّته بصورة موسعة ومعمقة.
وعقّب رئيس هذه الحركة، المحامي إليعاد شراغا، على قرار المحكمة بالقول إن “الوزير أوحانا أقدم على خطوة خطيرة جداً. ففي الوقت الذي تنكب فيه النيابة العامة على إعداد كل ما يتعلق بالإجراء القضائي ضد المتهم نتنياهو ـ الذي عيّن الوزير أوحانا لمنصبه هذا وأوكله بهذه المهمة المحددة جداً، أي تنفيذ التصفية المباشرة لمكتب النائب العام ـ
يقوم أوحانا بتعيين شخص لا يمتلك المؤهلات اللازمة والمطلوبة لإشغال هذا المنصب”.
لكن الوزير أوحانا، من جانبه، لم يكن ينوي الإذعان لقرار المحكمة العليا وما تضمنه من أمر يلزمه بتجميد تعيين بن آري قائمة بأعمال النائب العام ، إذ ادّعى ـ بعيد إصدار المحكمة العليا قرارها المذكور ـ بأن “الأمر الذي أصدرته المحكمة العليا ليس ذا صلة” و”ليس في وسعه منع التعيين” لأن “تعيين بن آري قد دخل حيز التنفيذ وأصبح ساري المفعول قانونياً قبل صدور قرار المحكمة العليا بيوم واحد”.
وقال أوحانا، في رسالة خاصة إلى مندلبليت، إنه “من غير الممكن تجميد أو تأجيل تعيين قد أصبح نافذ المفعول”. ورداً على هذا عقب المستشار القانوني للحكومة مندلبليت (المخول الوحيد حسب القانون صلاحية وضع تفسير الأحكام القانونية والقضائية وبحيث تكون تفسيراته هذه ملزمة للحكومة) بالقول إن قرار المحكمة وما تضمنه من أمر هو ملزم تماماً للحكومة وللوزير بصورة شخصية، “نظراً لأن بن آري لم تكن قد بدأت مزاولة مهام منصبها الجديد بصورة جوهرية.