ظهر مصطلح "الأدب الإسلامي" بكثافة في الربع الأخير من القرن المنصرم، في العالم العربي والإسلامي، بفضل بروز ظاهرة المد الإسلامي، ولا سيما بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران. وقد انصب رواد هذا الأدب على محاولة تأصيله وتعريفه ووضع ضوابطه.
والتسويغ الذي يستند إليه دعاة هذا الأدب يتمثل في أن العقيدة والأيديولوجيا ليستا غريبتين على الأدب، وإذا كان الأديب مسلما فمن الطبيعي أن يكون أدبه إسلاميا. وإذا سلمنا بهذا المنطق فعلينا أن نسلم بوجود أدب كاثوليكي أو سني أو شيعي، وهذا أمر مرفوض نقديا، فمن غير المقبول أن نضع الأدب في إطار أيديولوجي مغلق متجاوزين الجوامع المشتركة بين الآداب الإنسانية.
والواضح أن مصطلح "إسلامي" يجسد إشكالية واضحة لدى نقاد الأدب ومبدعيه في عصر الحداثة والانفتاح والمناداة بوجود تصورات إنسانية شاملة تخترق الحيز الجغرافي والأيديولوجي، لذا نجد طائفة كبيرة من المعترضين عليه من شتى الاتجاهات الأدبية، وهذه الاعتراضات، تتجه نحو المضمون، فهم يرون هذا المصطلح المضمون بدعة غايتها ترسيخ الأيدولوجيا الدينية، كما يرون فيه تضييقا لدائرة الإبداع، ذلك أن الأدب مفهوم إنساني لا يمكن حصره في اتجاه أو مذهب ديني، ولذلك فإن تحديده في جنس أو طائفة أو مذهب ديني يتعارض مع هذا التصور.
ومن جانب آخر، نرى النقد الموجه لهذا الأدب يحمل طابعا سياسيا، انطلاقا من أن هذا المصطلح نشأ وترعرع في ظل نمو الحركات الإسلامية، بل إن البعض اعتبره ابنا شرعيا لحركة "الإخوان المسلمين"، بحكم التوجه السياسي للمؤسسين والمنظرين الأوائل لهذا المصطلح، لذلك يرى هؤلاء المعترضون ينطلقون من أيدولوجيتهم الرافضة للإسلام السياسي بصورة عامة، كما هو الحال عند بعض الحداثيين العرب من أمثال الشاعر المغربي محمد بنيس، الذي خصص في كتابه (الحداثة المعطوبة)، فصلا عن الأدب الإسلامي عنوانه "أولياء بدون ولاية" اعتبر فيه هذا النوع من الأدب رد فعل جاهل بالأدب والثقافة العربية.
ثمة اختلاف بين التصور الديني والتصور الأدبي. كما أن الحقيقة في كل منهما مختلف؛ فالمعرفة في الأدب غير ثابتة وغير مطلقة على عكس الدين، الأدب تخييلي متحرر من القيود ومن سلطة الفقهاء والأعراف، ولذلك فإنه يتعرض للاختناق في ظل سياق تتحكم فيه النصوص الدينية، ويتسم بالتشدد والانغلاق.
"الأدب الإسلامي والآخر"
نشهد كثافة في التنظير لهذا المصطلح، سواء في المصنفات الأدبية والدوريات المختلفة أو في المواقع الإلكترونية، وهي في جملتها تدور حول تأصيل المصطلح، والرد على خصومه الذين حاولوا نقضه وفق اعتبارات فنية أو اعتبارات أيدولوجية في أحايين أخرى.
والمتتبع لهذه الردود يرى موقفا معاديا لتيارات الحداثة الغربية وتجلياتها في الأدب العربي، وهي، في مجملها، خاضعة للتصور الأيديولوجي لدعاة "الأدب الإسلامي" الذين يرون في هذه التيارات دعوة سافرة للإلحاد والعبث والمجون. ولا شك في أن في هذه الرؤية، في جانب منها، تعميما واضحا، فهذه التيارات، في كثير منها، أنجزت آدابا سامية على نحو ما نجد في الماركسية أو الوجودية وغيرهما.
والمفارقة أن القضايا النقدية التي تتناولها نظرية النقد الإسلامي مثل: الالتزام، والعاطفة والخيال، ورؤية العالم، والشكل والمضمون، ووحدة التجربة مأخوذة من مذاهب نقدية وافدة.
ومن باب الأمانة نذكر، في هذا الصدد، أن بعض المنظرين الرواد للأدب الإسلامي لم يجدوا غضاضة في الانفتاح على الأدب العالمي، كما هو الحال عند "محمد قطب"، الذي تناول أعمالا أدبية شرقية وغربية، وحاول استخلاص ما فيها من قيم إيمانية وإنسانية لا تتعارض مع جوهر التصور الإنساني للوجود، فقد تناول قطب أشعار "طاغور" الهندوسي، ومسرحية "الراكبون إلى البحر" للكاتب الإيرلندي جون سينج. وقد تعرض موقف قطب من انتقاد من قبل بعض دعاة الأدب الإسلامي أنفسهم.
غير أن بعض المنظرين المتأخرين يتمركزون حول المنتج الأدبي الإسلامي مضيقين بذلك الخناق على الأدب بوصفه نتاجا إنسانيا عاما يدور حول الشخصية الإنسانية: آمالها وعذاباتها وتطلعاتها نحو الحرية والانعتاق وتحقيق الشروط الإنسانية للعيش، ولاسيما مع هيمنة النظام العالمي الجديد، وغياب الحرية.
وهنا تكمن إشكالية ثانية تتضمن الانعزالية والتقوقع في دائرة ضيقة تحد من انفتاح هذا الأدب على المنجز الإنساني الذي لا يخلو من قيم إنسانية وأخلاقية لا تتعارض بحال مع التصور الإسلامي بمعناه الواسع للوجود.
"ندرة الإبداع الخلاق"
وشهد الأدب الإسلامي المعاصر نماذج أدبية رفيعة المستوى وخصوصا في النصف الأول من القرن الماضي. ونذكر في هذا الصدد الشاعر الفيلسوف "محمد إقبال" (1887-1938)، الذي يُعد، برأينا، النموذج الأمثل للأدب الذي يحمل تصورا إسلاميا واسعا للوجود، منفتحا على النماذج الإنسانية الشرقية والغربية، بحكم ثقافته الواسعة التي تستند إلى منظومة فكرية واسعة، فمزج بين الفلسفة والتصوف بأسلوب رفيع وتركيب مذهل يجسد الذات الإنسانية في أبهى صورها. وقد ترجمت أش
عاره إلى كثير من لغات العالم. كما نذكر الأديب "مصطفى صادق الرافعي" الذي يُمثل نثره الذروة في الأدب العربي المعاصر، ونذكر كذلك "نجيب الكيلاني" في رواياته المعروفة التي حازت على جائزة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بمصر عام 1960.
على أننا، في المراحل المتأخرة خصوصا، نجد، بصورة عامة، ندرة الأدب الإسلامي المتميز، فلا نعثر على نماذج إبداعية في الشعر والرواية والمسرح، والفن بشكل عام، ترقى إلى مستوى النظرية الإسلامية في الأدب، ولا نعثر مبدعين بارزين كما شهدنا في المراحل السابقة، فلا نذكر أن عملا أديبا إسلاميا حاز على جائزة معروفة، وهذه هي الإشكالية الثالثة، ونقصد بها الإشكالية الإبداعية المتمثلة بالميل الواضح نحو المضمون الديني والمباشرة على حساب التقنيات الفنية الحداثية في تجددها المستمر.
ولا يعود السبب برأينا إلى تضييق الخناق على "أسلمة الأدب" والسياسة، كما يظن البعض، فلم يعد الأمر كما كانت عليه الظروف السياسية والثقافية في فترات سابقة في العالم العربي والإسلامي التي اتسمت بالتضييق، في ظل الانفتاح العالمي، بل إن السبب، في تصورنا، يعود إلى الاشكاليتين السابقتين، إشكالية المفهوم، وإشكالية الموقف من الآخر، وقد تسبب عنهما تضييق الخناق على الأدباء الإسلاميين، وتركيزهم على المضمون الديني على حساب الجانب الإنساني، كما تسبب في الانغلاق على التيارات المعاصرة، ورفض منجزاتها على غرار ما نشهد من الموقف من قصيدة النثر التي عدت، لدى البعض، بدعة غربية هدامة، وهذا كله، في المجمل، ما أسهم بدوره في ضعف الثقافة الأدبية لدى كثير من الأدباء الإسلاميين، ولدى المتلقي الإسلامي بشكل عام.
ويمكن القول بأن الدعاة إلى الأدب الإسلامي ركزوا على الجانب التنظيري لمذهبهم، فكانت النظرية أكثر نجاحا من تجسيدها في أدب رفيع، على عكس ما نجد عند التيارات الأدبية الأخرى التي تهيمن في جودة إبداعاتها على الساحة الأدبية العربية، مما يستدعي، بالضرورة، إعادة النظر في هذه الإشكاليات، ولا سيما ضرورة الانفتاح على المنجز الإنساني والتراث الجمالي العالمي الذي يمثل ملكية شائعة لكل البشر.