دأبت وسائلُ الإعلام وغرفُ السياسة المغلقة على تداول أخبار في شكل تسريبات غير موثوقة منذ العام 2017، حول ما أصبح يسمى "صفقة القرن"، أو "خطة دونالد ترامب للسلام"، وهي الخطة التي أعلن عنها البيت الأبيض رسميا أمام وسائل الإعلام، بحضور رئيس وزراء إسرائيل "بنيامين نتنياهو"، وغياب كامل للفلسطينيين، وذلك يوم 28 كانون الثاني/ يناير 2020.
يُذكر أن هذه الخطة ليست الأولى التي ادعى أصحابُها السعيَ إلى حلّ القضية الفلسطينية، بل سبقتها خطط ومشاريع، كان مآلها مجتمعة الفشل والموت التدريجي. أما صناعُها من الأمريكيين ومن هم في ركبهم، فقد عكفوا على صياغة المشروع منذ بداية تولي "ترامب" ولايته الرئاسية. وكان متوقعا الإعلان عنها رسميا سنة 2018، فتأجّلت مرات عديدة، وتمّ الاكتفاء بتقديم أجزاء منها، وتحديدا الجانب الاقتصادي في ورشة المنامة، المنعقدة في 25 حزيران/ يونيو 2019 تحت شعار "السلام من أجل الازدهار".
تضمنت خطة ترامب للسلام، بحسب شبكة "فوكس نيوز" الأمريكية، ما بين 175 و200 صفحة، استندت على مفاهيم محورية ناظمة لما ستكون عليه فلسطين في المستقبل، من حيث الجغرافيا، والسيادة، والجانب البشري، والقدرات العسكرية، والأمن الداخلي ومع دول الجوار.
فعلى صعيد الإطار الجغرافي، ستتقلص مساحة فلسطين بعد دخول الخطة حيز التنفيذ إلى ما يقرب من 10 في المئة من مساحتها الحالية، التي التهمتها إسرائيل، ولم تبق سوى على 42 من المئة من مساحتها الأصلية. أما سيادتها، بالمعنى المتداول للسيادة في القانون الدولي، فلا وجود لها في مشروع السلام المقترح، بل ستكون عبارة عن بلدات مقطوعة الأوصال، مطوقة بلفيف من المستوطنات التي ستحولها الخطة إلى جزء لا يتجزأ من الأراضي التي سلبتها إسرائيل، بما فيها القدس بشقيها الغربي والشرقي، وهو ما يعني أن فلسطين المستقبلية لن يكون لها جيش وطني، ولا قوات مسلحة، بل تتحول إلى الأبد منطقة منزوعة السلاح، خاضعة للوجود العسكري الإسرائيلي.
وبخصوص الجانب البشري، شطبت الخطة، بشكل لا رجعة فيه، قضية اللاجئين والمهجرين قسرا من أراضيهم، وأقبرت تماما مشروع العودة، بما يعني الانقضاض على أراضي الفلسطينيين المغتصبة وأملاكهم التاريخية. ثم إن أمن الفلسطينيين واستقرارهم النفسي والاجتماعي سيكون تحت رحمة الإسرائيليين، لأنهم سيكونون عبارة عن مدنيين عزّل في مدنهم وبلداتهم.
أما القدس، أم القضايا وقلب الصراع، فستصبح وفق الخطة موحدة بغربها وشرقها عاصمة أبدية لإسرائيل، يُسمح للعرب والمسلمين وغيرهم من الديانات من زيارة أماكنها المقدس. ويمكن للفلسطينيين بناء عاصمتهم في الضواحي التي ستؤول إليهم خارج مدار منطقة القدس..
أما "جوانب الربح" التي بشّر بها صهر "ترامب"، ومستشاره الكبير "جاريد كوشنر" في ورشة المنامة، فتكمن في مبلغ خمسين مليار دولار، قيل إنه سيخصص لبناء فلسطين المستقبل، كما رسمتها خطة ترامب، فجلها ستُجنى من جيوب بعض الأقطار العربية وإيرادات مواردها الطبيعية.
تلك بتركيز شديد العناصر الجوهرية، أو المفاهيم المحورية المكونة لخطة "دونالد ترامب للسلام"، التي تحفظت عليها العديد من الجهات الدولية، ورفضها الفلسطينيون عبر مؤسساتهم الشرعية، وأعلنت الجامعة العربية والاتحاد البرلماني العربي، واتحاد مجالس الدول الأعضاء بمنظمة التعاون الإسلامي، عن عدم قبولهم بالمشروع واستبعاده بشكل مطلق.. ليس لأن الفلسطينيين، ومعهم العرب والمسلمون، يعارضون الجنوح إلى السلام، بل لأنهم يرون في خطة "ترامب" صفقة لبيع ما تبقى من فلسطين، وإخراج أهلها في الداخل المقدر عددهم بسبعة ملايين، وما يساوي هذا الرقم في الشتات، من التاريخ، وتحويلهم، كما حصل لغيرهم، إلى مجرد أقليات تعيش في مستوطنات لا روح ولا سيادة فيها.. فهل سيحالف النجاح خطة "ترامب" هذه المرة؟، أم أن مصيرها سيكون من مصير سابقاتها من الخطط والمشاريع؟
سيكون الجواب، وبدون تردد، أن مصير الخطة سيكون، كما قال رئيس مجلس الأمة الكويتي "مرزوق الغانم" سلة المهملات، لسبب طبيعي وغير قابل للاختلاف، هو أن القضية الفلسطينية قضية حقوق تاريخية أولا وأخيرا، وأن الحقوق غير قابلة للتخلي أو التفويت، أو الإكراه من أجل التخلي عنها.
ثم إن فلسطين ذاكرة جماعية، وهوية مشتركة، ووجدان راسخ في قلوب الفلسطينيين فرداً فرداً، يعبرون عن وطنهم بالأهازيج، واللباس، والمأكل والمشرب، ويرسمون أدق تفاصيله في الشجر والحجر، ويحملونه أينما حلّوا وارتحلوا.. حتى في أقصى مواطن اغترابهم، تبقى قلوبهم منشدة إلى فلسطين، وأعناقهم مشرئبه إلى تفاصيل حياة بلداتهم وقراهم. ولعلّي أستحضر حقيقة ًفقط، هي أن الفلسطينيين من غير كل شعوب العالم ما زالوا يحتفظون بمفاتيح منازلهم على أمل العودة إليها من جديد.. هذه هي حقيقة فلسطين في التاريخ والذاكرة، فلسطين العصيّة على البيع والشراء.
لكن تحتاج فلسطين، في المقابل، إلى يقظة الوعي العربي والإسلامي، كي توقفَ الخطةُ، ويتم إفراغُها من مضمونها، وإلحاق الفشل بها أسوة بسابقاتها. فالصورة التي عليها حال العرب والمسلمين مقلقة من زاوية الوهن الذي دبَّ في وجودهم، وحضورهم في الفعل الدولي شاحب، وغير مشجع. وفي المقابل، منطق الغَلبة الأمريكية ما انفك يتصاعد، وتتزايد قسوته، وتوازن القوى في العالم لا يؤشر إلى وجود إمكانية حقيقية لتكافؤ أوزانه، وكلها متغيرات في غير صالح استمرار الوهن في الجسم العربي والإسلامي، والفرقة في الوطن الفلسطيني.
عربي 21