هل لجوء قادة كترامب وجونسون باستخدام أدوات وأساليب اقتصادية تنتمي للمنهاج -الأكثر كراهية عليهم-وهو الاقتصادي الاجتماعي-الاشتراكي بسبب أزمة وباء الكورونا ، يعني سقوط أو تخليهم عن المنهج الاقتصادي المحافظ للمدرسة الليبرالية الجديدة ؟
بكلمات أخرى هل أدى عجز قوى السوق الحرة عن مواجهة أزمة وباء الكورونا ، واضطرار الدولة للتدخل بشكل كبير لحماية السوق والمجتمع من خلال تخصيص حزم مساعدات تضمنت في امريكا على سبيل المثال -وهي رأس النظام الرأسمالي- دفع 1200 دولار لكل شخص ، او 2400 دولار لكل زوج ، اضافة الى 500 دولار لكل ولد ، وتخصيص منح لأصحاب الأعمال الصغيرة ، وتحديد أجور كبار الموظفين والمدراء وزيادة دور البنك الفيدرالي وغيرها من الخطوات التي قد تكلف الخزينة الأمريكية أكثر من 2 تريليون دولار ، وقد تضطر للمزيد .
يمكن قراءة الأحداث من زوايا مختلفة : ففي الأزمات يظهر مدى أهمية الدولة ودورها في الدفاع عن الاقتصاد والمجتمع ، وهو أمر مناقض تماماً للنموذج المحافظ للمدرسة الليبرالية الجديدة والتي كان على رأسها قادة مثل مارغريت تاتشر ورونالد ريغان ومقولته الشهيرة " الدولة هي المشكلة وليست الحل " ، فالليبرالية تؤكد على ضرورة إضعاف دور الدولة وتعزيز قوى السوق الاقتصادي الحر أو ما يسمى ( اليد الخفية ) بروح مقولة آدم سميث الشهيرة " دعه يعمل ، دعه يمر " كما أكدت النظرية ضرورة إضعاف القطاع العام او ما أسماه رجل الليبرالية الجديدة الاول في اسرائيل ( الرجل السمين ) . فهل ضعف كفاءة وقدرة الليبرالية الجديدة وبسبب أفكارها السابقة في مواجهة الأزمات كالكورونا يعني أنها لا تصلح في الأوضاع الطبيعية ؟ وبالتالي فان الأزمات لها أحكامها الخاصة والاستثنائية التي لا ينبغي تعميمها حيث تنتهي بإنتهائها ، وبصيغة أخرى ، هل هذا يعني ان مبدأ تدخل الدولة في السوق بصورة كبيرة الذي قامت عليه نظريات اجتماعية اقتصادية واشتراكية ،لا يصلح إلا في أوقات الأزمات؟ أي أنه مبدأ استثنائي وشاذ من الخطأ بل من المصيبة ان يتم تعميمه ، وقد يعزز هذا الاستنتاج القائلين بصلاحية أو واقعية نموذج الليبرالية الجديدة رغم عيوبه في الأزمات . ولمزيد من التناقض فإن الأزمات والتعامل معها بأساليب استثنائية تظهر قدرة الليبرالية على ملاءمة نفسها ، حتى لو اضطرت مرحليا لإستخدام أدوات من غير أدواتها .
من الواضح أن وباء الكورونا أظهر عيوب النظام السائد ولا يعني هذا بالضرورة سقوط هذا النظام ، وهذا تماماً كما في أزمة 2008 التي أظهرت عيوب النظام ولكنها لم تستطع إسقاطه كما توقع الكثير من المراقبين ، وهو أمر مختلف عما فعلته أزمة الركود الكبير في 1929 والناتجة عن اقتصاد سنوات العشرينات الحرّ والمنفلت ، والتي أدت الى زيادة قوة القوى الشيوعية في الغرب ونهوض الفاشية والنازية ، إضافة ( لما يعتبردليلا على تعديل الليبرالية والرأسمالية ) وهو ظهور وسيطرة فلسفة الاقتصادي الانجليزي الشهير "كينز" والمسماة ( بالصفقة الجديدة- نيو ديل ) وصيغة ليبرالية تسمح بدرجة أكبر من تدخل الدولة في السوق في محاولة لإيجاد توازن في درجة تدخل الدولة في السوق .
من الصعب تقدير مدى تأثيرات وتداعيات أزمة الكورونا على الاقتصاد والمجتمع والسياسة دولياً ومحلياً ، خاصةً بعد ان أظهرت بوضوح مآسي النظام الرأسمالي المتوحش ، وعلى رأس ذلك ما أنتجته من سباق تسلح من نوع جديد هدفه الحصول على الكمامات وأجهزة التنفس وباقي المستلزمات الطبية اللازمة والنادرة . فهل ستؤدي الأزمة الى تفكك الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال أو إيجاد صيغ تعاون جديدة في أوروبا ؟ هل ستؤدي الى ظهور قوى يمينية متطرفة تدعو لانعزال كل دولة في حدودها الوطنية ؟ أم ستؤكد مدى أهمية التعاون بين الدول والمجتمعات ؟ أم ان الأزمة ستكون غمامة صيف ستنقشع ويعود النظام الرأسمالي تماما كما كان قبل الأزمة ؟
من الممكن بأن تؤدي الأزمة الى صيغة أخرى تقضي بتعديلات على النظام ، وتؤدي لشكل من أشكال العودة ( او التطور ) لسياسات دولة الرفاه الاجتماعي وهي الأقرب الى النظام الاسلامي ، وهي حل وسط بين الرأسمالية المنفلتة والاشتراكية الرسمية ، وليعاد الاعتبار للقطاع العام وخاصة في مجال الصحة ، وليتم التراجع عن الاندفاع نحو الخصخصة-وهي أحد أهم وسائل الليبرالية الجديدة والتي كانت أحد أسباب فشل العالم اليوم في مواجهة جائحة الكورونا .
بمعنى آخر قد تؤدي الأزمة لكبح جماح الرأسمالية المتوحشة ، والتي يقودها ترامب ورفع الحد الأدنى من الأجور ، وزيادة الضرائب على الأغنياء وغيرها من سياسات .
يمكن القول بوضوح بأن العالم ما بعد الكورونا لن يكون كما كان قبلها ، والمسألة نسبية لا مطلقة ، ففي المدى القريب ستكون الأمور صعبة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا ، أما في المدى المتوسط والبعيد فمن الصعب التقدير ، ولكن من المرجح عدم سقوط النظام الرأسمالي والليبرالية الجديدة ، بل احتمالية
قيامه ببعض التعديلات الهامة باتجاه سياسات دولة الرفاه الاجتماعية ، أما سياسياً فالأمر متعلق بعوامل كثيرة منها : وجود بدائل حقيقية وقوية لهذا النظام وهو أمر يبدو صعباً في هذه المرحلة ، وبمن سيكشف اللقاح-دواء الكورونا ، فان فعلت أمريكا ذلك فقد يخفف الأمر من عملية تراجع مكانتها والتي بدأت بقرارها وقبل الكورونا ، وتصاعدت مع إدارة ترامب المرتبكة وتحديداً في أزمة الكورونا ، وقد يزيد الإعجاب ( المؤقت ) بالأنظمة الشمولية والتي تقوم على الضبط والسيطرة وكبح حريات الانسان كالصين ، والتي أظهرت نجاحاً في ضبط الوباء ، علماً أنها تتقن أيضا إخفاء الكثير من الإخفاقات والحقائق .