هي صفحات تعج بالعز والفخار، تعيد لمن يقرؤها أمجاد الفاتحين الأوائل التي لطالما اشتاقت لها الأمة بعد أن تسربلت بالضعف وتلاحقت عليها الهزائم، فسخر الله لأعداء الأمة من يسوهم سوء العذاب، ليعز الله بهم الإسلام وأهله ويشفي بصنيعهم صدور قومٍ مؤمنين.
في ذكراها ال19 نتفيؤ اليوم ظلال عملية إيلي سيناي الثانية التي نفذها الاستشهاديان القساميان/ جهاد حمدي المصري، ومسلمة إبراهيم الأعرج صبيحة يوم الأحد 17 رمضان 1422ه الموافق 2/12/2001، وتزامنت مع سلسلة عمليات نفذتها كتائب القسام انتقاماً لاغتيال القائد محمود أبو الهنود، أسفرت عن مقتل وإصابة عشرات الصهاينة وسددت ضربة محكمة لمنظومة العدو العسكرية الأمنية.
الرصد والتخطيط
قبل شهرين من هذه العملية نفذت كتائب القسام عملية اقتحام للمغتصبة ذاتها، كان فارساها الاستشهاديان ابراهيم نزار ريان وعبد الله عودة شعبان، وأوقعت عدداً كبيراً من القتلى والجرحى، فقام العدو بعدها بأعمال تجريف كبيرة للمزارع المحيطة، كما زاد العدو وأجهزة السلطة إجراءات الحراسة والمراقبة للمنطقة.
كُلّف بمهمة التخطيط والتنفيذ الميداني قيادة القسام في بيت لاهيا بإشراف مباشر من قائد القسام في شمال قطاع غزة، وعلى إثر ذلك جرت عمليات رصد استمرت شهرين متواصلين ليلاً ونهاراً، رُصدت خلالها عدة أهداف؛ منها موقع الرماية الخاص بالجنود، والشارع الرابط بين تجمع المغتصبات الشمالية، وكذلك الدبابات والدوريات المنتشرة.
بعد دراسة مضنية لنقاط ضعف العدو تم تحديد ثغرةٍ يمكن من خلالها اختراق حراساته والوصول إلى موقع الرماية، وقد تم وضع عدة حلولٍ مقترحة لكافة المعضلات والمخاطر المحتملة أثناء التنفيذ، وتم إعداد الخرائط والوثائق اللازمة لرفعها إلى قيادة القسام.
اختيار الاستشهاديين
بالتزامن مع تحضيرات الميدان كانت تجري عملية اختيار الاستشهاديين، وتبعاً لتوصية القيادة المشرفة على العملية، فقد تم اختيار أحد الاستشهاديين من مجاهدي بيت لاهيا العارفين بالمنطقة بشكل جيد، وهو المجاهد جهاد حمدي المصري، وذلك لصعوبة تنفيذ العملية دون دليل خَبِر تفاصيل المنطقة وتضاريسها، حيث كانت لجهاد بصمة في الرصد والتصوير والمشاركة في بعض العمليات السابقة منها عملية الشهيدين ريان وشعبان، كما شارك في تصوير موقع الرماية من الداخل سابقاً، أما ثاني الاستشهاديين فكان المجاهد مسلمة إبراهيم الأعرج من منطقة اليرموك بغزة.
وكان من جميل الأقدار أن وقع الاختيار على هذين المجاهدين حيث كان كل منهما يكمل الآخر، فجهاد رجل الرصد والميدان وقد أشرف على تهيئة وتدريب مسلمة ورفع لياقته، ومسلمة رجل الدعوة وطالب العلم الشرعي وقد أشرف على تعبئة جهاد روحياً وإيمانياً ومعنوياً، وقد أعدّا لبعضهما ورداً خاصاً مشتركاً بينهما يشمل التدريب والأذكار والصيام والقيام وصيام الجوارح.
وقد بدأ تدريب الاستشهاديين قبل تنفيذ العملية بأسبوعين، وقد أشرف على مهام التدريب والتجهيز اللوجستي عدد من الإخوة القادة أبرزهم الشهيد القائد فوزي أبو القرع، والشهيد القائد وائل نصّار، والشهيد القائد سهيل زيادة.
اغتيال أبي الهنود
بينما يجري التخطيط والتجهيز لهذه العملية على قدم وساق، أقدم العدو على اغتيال القائد محمود أبو الهنود بتاريخ 23/11/2001 والذي وافق 8 رمضان 1422ه، وعلى إثر ذلك قررت قيادة كتائب القسام وعلى رأسها القائد العام الشهيد صلاح شحادة، الانتقام للشهيد بشكل عاجل، فكُلفت القيادة الميدانية بإتمام خطة العملية والإسراع في التحضيرات الخاصة بها لتكون ضمن سلسلة عمليات تنفذ عشية ذكرى غزوة بدر الكبرى.
التحضيرات الأخيرة
يوم الخميس 14 رمضان تم تصوير الاستشهاديين جهاد المصري ومسلمة الأعرج في مدينة غزة، وقد شاركهما أثناء تصوير الوصية القائد العام الشيخ صلاح شحادة، كما تناول معهما طعام الإفطار وجلس معهما جلسةً خاصّةً أعطاهما خلالها عدداً من التوجيهات.
وبعد إتمام التصوير انعقد الاجتماع الخاص بدارسة خطة العملية وإقرارها، وقد انعقد هذا الاجتماع بحضور القائد العام الشهيد صلاح شحادة، والقائد أبو خالد الضيف، والقائد الشهيد ياسر طه، والقائد الشهيد وائل نصار، والقائد أبو أنس والقائد أبو معاذ، وقيادة بيت لاهيا المشرفة على العملية، والأخوين الاستشهاديين جهاد ومسلمة، وتم مناقشة تفاصيل العملية بكافة مراحلها وإعطاء التوجيهات حولها.
توجيهات الضيف
أثناء مناقشة خطة العملية أعطى الإخوة القادة عدة توجيهات للمنفذين، كان منها عدة توصيات من القائد أبو خالد الضيف، أهمها ضرورة وضع أكياس "خيش" في أحذية الاستشهاديين لتخفيف آثار أحذيتهم، والعمل على مسح الأثار بأغصان وورق الأشجار، كما أوصاهم بضرورة إطلاق النار على الرأس ومن مسافة صفر، وعدم الاكتفاء بالرماية عن بُعد، وذَكرَ للمجاهدين كيف كانت تعليمات القائد الشهيد عماد عقل لإخوانه بإطلاق النار من مسافة صفر، أو تأجيل العملية حال كانت مسافة الرماية تزيد عن ثمانية أمتار.
يوم التنفيذ
انطلق الاخوة المكلفون بالرصد فجر يوم السبت وتمركزوا في احدى المزارع وباشروا عملية الرصد، وبعدها بساعات استلم قائد المنطقة الاستشهاديين، وقام بإخفائهم مع المعدات الخاصة بالعملية داخل إحدى المركبات التي كان مهمتها إيصالهم لغرفة زراعية للكمين فيها ليلة التنفيذ.
ومما لفت انتباه القادة أن الشهيد مسلمة الأعرج كان يقرأ في كتابٍ فقهي معه أحضره معه، وحين سؤاله عن ذلك قال: "أريد أن ألقى ربي وأنا أجمع بين طلب العلم الشرعي وطلب الشهادة"، وقد أهداه يومها لقائد المنطقة قبل التحرك لميدان العملية.
في الأثناء كان أحد القادة الميدانيين قد وصل الغرفة الزراعية راجلاً وكمن هناك في انتظار الاستشهاديين، وعند وصولهم قام بتجهيزهم بالزي العسكري والجعب والسلاح، وقد تجلت رعاية المولى سبحانه في مغادرة ناقلة الجند المتمركزة مقابل الغرفة الزراعية قبيل وصول الاستشهاديين للمكان بدقائق دون انتظار الناقلة التي ستحل مكانها، وهو الأمر الذي لم يحدث طيلة شهرين سابقين مع الرصد المتواصل، مما أتاح لهما الوصول للمكان والتجهز للعملية دون أن يكتشف أمرهما.
ومع صوت أذان المغرب تناول المجاهدون الثلاثة طعام الإفطار وأدوا صلاة المغرب، وعيونهم ترصد أي تحرك لقوات العدو، وبعد ذلك صلوا العشاء والتراويح بالتناوب.
همسات
أثناء الكمين سأل القائد الميداني الشهيد مسلمة هامساً عن أكثر ما يَشغل تفكيرَه في تلك اللحظات، فقال وهو تغمره ابتسامة عريضة وينظر إلى السماء: "أفكر في لحظة خروج روحي من جسدي، كيف ستكون الشهادة في سبيل الله، وكيف ستستقبلني الملائكة، وكيف ستطير روحي إلى ربي".
أما جهاد الفتى اليافع فيحدث إخوانه مبتسماً: "لقد أكرمني الله واستجاب دعائي في أمرين كنت أطلبهما، أن ألتقي القائد محمد الضيف، وأن يقع الاختيار علي لأكون الاستشهادي القادم، فأكرمني الله أن التقيتُ أبا خالد والشيخ صلاح معاً، وهذا ما لم أتوقعه، وأكرمني بهذه العملية"، ويتابع موجهاً كلامه للقائد الميداني: "حنتسحر سوا، بعدين أنا وأخويا أبو إبراهيم حنفطر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وانت حترجع لإخوانك لإنهم لسا محتاجينك".
بادر الشهيد جهاد بتجهيز طعام السحور، ولم يكن الشهيد مسلمة يرغب بتناول الطعام حينها، فقال له جهاد: "يجب أن نتقوى حتى نستطيع أن نقاتل الأعداء ونثخن فيهم" وأضاف ممازحاً: "أنا أميرك ولازم تسمع كلامي بدون نقاش"، فتبسم له مسلمة وقال له: "حاضر يا أميري سمعاً وطاعة".
إشارة البدء
بعد تناول السحور جلس الإخوة يراجعون الأدوار المطلوبة منهم في العملية، وفي تمام الساعة 3:30 جاءت إشارة التحرك، فصلى المجاهدون ركعتي الشهادة وتعانقوا، ثم انطلقوا بعد تأكدهم أنه لا يوجد حركة حول الناقلة، وحين أصبحوا بمحاذاتها ودعهم القائد الميداني وأعطاهم التوجيهات الأخيرة، ولما اطمأن إلى عدم انكشافهم من قبل العدو انسحب نحو غرفة القيادة التي كانت تبعد 2 كم عن المكان.
اتصل الشهيد مسلمة بقائد العملية الساعة 6:00 صباحاً وأبلغه بأنهم قد تمركزوا داخل خنادق التدريب بانتظار لحظة الاشتباك مع العدو، وعند الساعة 8:00 صباحاً بدأ الاشتباك العنيف حيث أمطر المجاهدان النار على مركبات المغتصبين، وقد استمر الاشتباك لأكثر من ساعة، تقدم خلاله المجاهدان نحو مركبات المغتصبين وقاما بإطلاق النار على إحداها من مسافة صفر، ولم يستطع جنود العدو السيطرة على الموقف إلا بعد أن قامت الآليات بإطلاق قذائفها صوب الاستشهاديين.
صيدٌ ثمين
أسفر الاشتباك عن مقتل صهيوني وإصابة 5 آخرين بجراح، وكان من توفيق الله للمجاهدين أن ساق لهم صيداً ثميناً، حيث أن الصهيوني الذي قتل في العملية هو العالم النووي باروخ سينجر، أحد أكبر 10 علماء للطاقة الذرية في الكيان، وقد كان مقتله ضربةً مدويةً للاحتلال.
وصدحت فلسطين بالتكبير معلنةً الانتقام لأبي الهنود، بسلسلة عمليات هزت عمق الكيان وكبدته خسائر فادحة، وزفت فلسطين إلى الحور العين أبطالها الاستشهاديين، فيما ودعت غزة بطلي عملية إيلي سيناي، ليلحقهم فيما بعد عددٌ ممن شاركوا في تنفيذ مهام محددة خلال العملية منهم الشهيد بلال عطية غبن، والشهيد فرج عايش أبو ربيع، ولا زال آخرون ينتظرون وما بدلوا تبديلاً.