أثيرت الذكرى حينما سؤلت في أحد البرامج الحوارية عن أجمل هدية وصلتني في العيد، فتذكرت هدية جدتي "حفصة" وأنا بعمر عشر سنوات في أحد الأعياد الذي قضيناه هنا في زيارة لجدتي في مخيم رفح، حيث أحضرت لي طبلة فخارية صغيرة الحجم، منقوشة وملونة الفخار جميلة إلى الحد الذي لا يوصف، عرفت لاحقا حينما سألت عنها بأنها لم تصنع في غزة، وإنما صنعت في عكا وجلبها التجار إلى غزة. المهم كانت هدية لا تنسى ظلت طوال ليال العيد أضرب على رقعتها والجارات أترابي يغنين:" غندرة مشي العرائس غندرة". وأذكر في ذلك العيد كانت تزداد الحركة في المخيم الفقير، لأن الأطفال يحملون في جيوبهم مال كاف لشراء الحلوى أكثر من مرة، ولعب المراجيح الشعبية، وربما كان العيد فرصتهم الوحيدة خلال العام للحصول على ملابس جديدة. وفي عيد غزة توجد الشقاليب والمراجيح الحديدية التي صنعت بيد حداد يبحث عن لقمة صعبة المنال، وتحركها يد شاب يطمح بأن يجمع خلال أربعة أيام رسوم الجامعة للفصل القادم. في غزة أعياد مختلفة، البحر سيضج بعد أيام بكثير من الأطفال، والصبايا الملونات بملابس بهية، سيتمشين على الكورنيش، وهو فرصة أخرى للرزق لباعة الترمس والحلب، والذرة، وفستق العبيد المحمص، وهؤلاء عيدهم ربما يبدأ بعد انتهاء العيد، أو ربما لا يبدأ، لا فرق لديهم. وفي العيد قصص خفية، لنساء كثر ينتظرن العيدية ليشبعن رغبتهن النسوية بالتسوق، والركض فورا في ثالث أيام العيد لشراء "عبائة وشيلة" ملونة وربما حقيبة جديدة، ستلبسها عروس شابة، وتذهب لزيارة أمها ثم ستخبرها كاذبة بأنها هدية زوجها يوم العيد، وتكون تلك المرة الأولى في سلسلة كذبات لاحقة تكذب فيها على أمها، قلوب الأمهات لا تحتمل، والبنات يعلمن ذلك. وفي العيد أيضا سيمر أبو مرشود بائع البوظة الذي تعتقد ابنتي بأن بوظته ألذ كثيرا من أغلى المحال في غزة، وسينادي من تحت الشرفة:" أبو مرشود وصل" وسيركض أبنائي الأربعة وأنا معهم لشراء بوظة أبو مرشود التي تبرد القلب الظمآن، وسيكون حوله الكثير من الأطفال، يتسابقون وجيوبهم ملئي بشواكل الأعمام والأخوال. وفي غزة عيد آخر، حيث زيارة المقابر يعتبرها الغزيون لفرط أحزانهم طقسا من طقوس العيد، ثم كيف لك أن تبدأ فرحتك بالعيد دون أن تقول لأمك أو أبوك تحت التراب كل عام وأنتما بخير؟! مواسيا نفسك، متناسيا أن العيد قد يتوقف هنا. وهناك طقس من طقوس العيد ما زال متعارفا على سفرة أمهاتنا وهو نقع الترمس قبل يومين وتمليحه وتحضيره للعيد، الترمس نوع من التسلية لم يعد متداولا في الأيام الحالية حيث تنتشر صور سفر الصبايا وضيافتهن على الانستجرام بأصناف من الحلوى وطرق تقديمها الملونة التي لا ترتبط كثيرا بما يقدمنه أمهاتنا من ضيافة. وكعك الأمهات والجدات أيضا، صدقا رائحته تختلف عن كعك اليوم، لكعك العيد الذي يفرد على الطبلية الخشبية "وتبسه" عشرة أيدي، وترصه يدها ما قبل سحور آخر يوم في رمضان في صناديق كرتونية كهدية " للولايا" هدية العيد القديمة التي تمنيت أن تصلني يوما من أمي البعدية عني في كل الأعياد" رحمها الله"، ولم تصل. وفي العيد تعودت أمي رحمها الله أن تصنع كشك العيد، الكشك طبخة من طبخات الفلاحين القدامى، ولا أدري ما الذي حولها إلى عادة في بيتنا حيث عرف عن أمي أنها تصنع الكشك كل عيد، وسيأتي الضيوف في المساء للحصول على عشاءهم من الكشك، بعد أن افتتحوا يوم عيدهم بوجبة فسيخ مملحة وأعقبوها بجالون من الماء البارد، وبدون هذه الوجبة المضرة لا يأت العيد. وفي المنازل الغزية، والعائلات الغزية الأصيلة تعارفت العادة على صناعة السماقية وهي طبخة تعتمد على السماق واللحم، وترتص الصحون في ليلة العيد على موائد العائلات حيث توزع في صباح اليوم التالي على البنات والأبناء كل يصله نصيبه الى باب بيته. عشت في الغربة سنوات طوال، ما رأيت طقوس العيد إلا حينما عدت إلى غزة، فرغم بعدي عن أهلي إلا أن غزة وحدها تضج بالأعياد رغم جراحها الكثيرة وستبقى.
للعيد ذكريات.. هدية جدتي، وصندوق الكعك الذي لم يصل
بقلم : رشا فرحات