لم يكن الشهيد رمضان شلح قائدا سياسيا بل كان أديباً أيضاً، وكتب مقالات عديدة في صحيفة الاستقلال تحت اسم حركي "محمد الفاتح" وغداة ارتقاء الشهيد الخالد يحيى عياش بتاريخ 12/1/1996، كتب المقال الآتي:
هل تستقيل الوردة من عطرها؟!
محمد الفاتح
قرأت في الاستقلال رسالة «ابنة القدس» تسأل عن «محمد الفاتح»، فاغرورقت عيناي بالدموع، لكنني للأسف لم أستطع تلبية طلبها بالعودة للكتابة، ليس لأنني قُمعت أو أُحبطت كم اعتقدت هي، ولكن لأسباب خاصة يصعب البوح بها كلها،.. منها رحيلي عن الوطن لظروف قاهرة ورحيل لغتي وصوتي عني منذ رحيل المعلم الفارس أبو إبراهيم الشقاقي..
لم يكن «محمد الفاتح» سوى تلميذ صغير في مدرسة مؤسسها العملاق فتحي الشقاقي. كان أبو إبراهيم (رضوان الله عليه) توأم روحي ومداد قلمي حين غادرنا لملم من زوايا عقلي، وجنبات قلبي كل المفردات التي زرعها فيّ لما يقرب من عقدين من الزمان..
وحين اتصلت بي هيئة التحرير وطلبت مني أن أكتب ولو مرة واحدة في تكريم الشهيد العظيم يحيى عياش، بكيت الشهيد فور انتهاء المكالمة للمرة الرابعة!، الأولى كانت بكاء الانتصار بعد سماع نبأ استشهاده، والثانية كانت بكاء الفخر والاعتزاز عندما رأيت والد الشهيد وسمعت كلماته تعليقاً على خبر استشهاد ولده، والثالثة كانت بكاء الفرحة والثقة بشعبنا عندما رأيت جنازة الشهيد، والرابعة كانت بكاء الضعف وقلة الحيلة عندما طلبت إليّ هيئة التحرير أن أكتب عن يحيى عياش.
عندما يسقط رأس يحيى عياش الإنسان القدّيس في زمن صارت فيه رؤوس الحيوانات على أجسام الناس الذئاب، ما جدوى الكلمات وما هي قدرتها على وصف بشاعة المرحلة؟!
كما هو فتحي الشقاقي عندي، فإن يحيى عياش غير قابل للرثاء ويستعصي علي كل الكلمات. يحيى عياش كان قابلاً للانفجار، قابلاً للاشتعال، وقلبه وسع فلسطين من بحرها إلى نهرها.. فأية لغة يمكن أن تسِعه؟!
كم من الشهداء يلزم كي يخلع الشرطي بدلته ويمضي في زحام الشعب، يبحث عن بقايا لحمنا في رأس حربتهم؟!
كم فتحي الشقاقي ويحيى عياش يلزم «حماس» و»الجهاد» لتزرع عظامهما سياجاً حول المشروع الإسلامي في فلسطين يحميه من انهيارات الزمن الإسرائيلي ويحفظ شباب الإسلام من عطب الروح ودنس المرحلة؟!
أن أكتب عن يحيى عياش، يعني أن أعيد صياغته وتكوينه وهو المستحيل، فالذي احترف تركيب العبوات التي تدشن لتفكيك المستوطنة الملعونة «إسرائيل» بقطرات الدم الزكيّ لا تعيد صياغته وتكوينه قطرات الحبر الفاخر ولا أحرف الكمبيوتر الأمريكي!
لست أنا الذي اخترت التوقف عن الكتابة يا ابنة القدس، لكن دم فتحي الشقاقي الذي يمتزج به دم يحيى عياش الآن هو الذي دفعني عن حصان النشيد وسلبني وتر اللغة، وقال لي ما قاله الشاعر يوماً: «لابد من منفى يُبيّض لآلئ الذكرى ويختزل الأبد، في لحظة تسع الزمان..» دم هؤلاء الأفذاذ يستحث خطاي للحاق بهم ويقول: «إن خطوة الشهداء بيت».
تُرى كم كان وسع خطوة يحيى عياش وهو يعدو بين جنبات الوطن ليتوارى عن أعين الغزاة؟ ماذا لو قال أحدنا إن خطوة الرجل عندما غادرنا كانت بالكيلومترات، لا السنتيمترات.. هل يصدقه أحد؟ هل يصدق أحد أن خطوة يحيى عياش صارت بيتاً وسع الشعب كله حين سار في جنازة يحيى؟!
رُغم البكاء ومرارة الفاجعة، إلا أن حزني ليس على الشهيد الذي ارتحل عنّا نحن أكوام الطين الآدمي ليبعث فينا الحياة.. حزني ليس على الشهيد وأنا أنظر إلى أمة، أمنا كلها وقد شدت وسطها بحزام الصبر حتى النصر..
حزني ليس على الشهيد ودوي الرصاصة التي أطلقها طفله «البراء» لا يفارق أذني.
كما أن حزني ليس على «أبو إبراهيم» رغم أن بنته خولة منذ رحيله تهدهد دميتها لتنام منشده:
«قل لزوج الحمام يكف الهديل
فأنا لا أنام وحبيبـي قتيـل»
حزني على أولئك الذين يطالبون شعبنا بالتغاضي عن الدم في كأس لوعتنا المرير.
حزني على أولئك الذين يسفحون دم وجوهنا فلا نعرف بأي الوجوه نقابل أرامل الشهداء وأيتامهم.
حزني على من يحاولون التنصل أو الحياد ويقولون إن من حق الوردة أن تستقيل من عطرها.. ومن حقنا أن نستقيل من دم الشقاقي وعياش! حزني على خطا النشاما التي لم تعثر على بقايا لحمنا في حراب الجند بعد.
لكل هؤلاء أقول:
إن دم فتحي الشقاقي ويحيى عياش يضعنا على طرف الخيار:
إما أن نغيب أو نُعلّب أو نموت على مزاج الأوصياء..
فهل نختار جنون السقوط في هذه البدائل طالما أننا نستطيع الموت على مزاجنا؟!
من يجهل الإجابة فليذهب إلى قبر صلاح شاكر، وأنور سكر؛ ليقرأ ما كتبه هناك عبد الله بن رواحة قبل ألف وأربعمائة عام:
لكننـي أسـأل الرحمن مغفــرة * وضربـة ذات فرع تقذف الزبـدا
أو طعنـة بيـدي حـران مجـهزة * بحربة تنفذ الأحشـاء والكبـدا
حتى يقـال إذا مروا على جدثي * أرشـده الله مـن غـاز وقد رشـدا