يعاني ما يقدر بملياري شخص من نقص في واحد أو أكثر من المغذيات الدقيقة الضرورية، ونتيجة لذلك، يواجه الكثيرون مشاكل صحية خطيرة مزمنة، فيما يعرف بـ"الجوع الخفي".
ويوضح تقرير نشره موقع شبكة "بي بي سي" البريطانية أن الأطفال عندما لا يحصلون على كفايتهم من عنصر الحديد، تحديدا، فإن النتائج تكون وخيمة، إذ يؤدي نقص الحديد إلى البطء في اكتساب اللغة وضعف الذاكرة قصيرة المدى، وتدني القدرة على التركيز والانتباه، وكل هذا يؤدي إلى ضعف تحصيلهم الدراسي.
وينقل التقرير عن "وولفغانغ فيفر"، مدير الأبحاث والتنمية بمؤسسة "هارفست بلاس" لإنتاج المحاصيل المدعمة بالعناصر الغذائية في واشنطن، قوله إن هؤلاء الأطفال لا يستغلون إلا جزءا من طاقاتهم وإمكاناتهم البدنية والذهنية، فعندما يعاني الطفل من نقص في الفيتامينات والمعادن، تقل قدرته على التعلم في مرحلة البلوغ بنسبة 20 بالمئة.
ويعاني ملايين الأطفال في أفقر المناطق من الهند والصين من تأخر النمو نتيجة لنقص الحديد. وفي جنوب آسيا، تعاني نحو 50 في المئة من الحوامل من نقص الحديد، وترتفع معدلات نقص الحديد أيضا في أمريكا الجنوبية وبلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
وبخلاف الحديد، هنالك مغذيات دقيقة عديدة يجب أن نستهلكها بكميات ضئيلة ولكن بانتظام لنظل أصحاء، مثل الزنك والنحاس والفيتامينات، وحمض الفوليك وفيتامين ب9.
وفي ظل تزايد عدد سكان العالم، أصبح تحسين جودة الغذاء، وليس زيادة كميته فحسب، أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، إذ أن عدم الحصول على المستويات الكافية من المغذيات الدقيقة سيعرض الكثيرين لمخاطر الإصابة بمشاكل صحية مثل التقزّم والعيوب الخلقية والعمى.
لكن هذه الصورة أخذت تتغير بعد ظهور طرق جديدة لمعالجة نقص المغذيات الدقيقة، مثل نقص الحديد. إذ طرحت شركة "هارفست بلاس"، في عام 2012، صنفا جديدا من نبات الدخن (حبوب تشبه القمح)، الذي يعد من المحاصيل الزارعية الرئيسية في الهند. وقد استنبط هذا الصنف من الدخن اللؤلؤي عن طريق التهجين ليحتوي على نسبة أعلى من الحديد.
وفي عام 2017، دشنت الشركة حملات تسويقية استهدفت أكثر من 70 ألف مزارع، أكثرهم في ولاية ماهاراشترا الهندية، ويستهلك الآن عشرات الآلاف من الأطفال في الهند الدخن اللؤلؤي الجديد الغني بالحديد.
ويقول "فيفر" إن النتائج كانت مبهرة، إذ ساهم الدخن المعزز بالحديد في تعويض نقص الحديد وتحسين الأداء البدني والمعرفي للمراهقين.
وبالإضافة إلى الدخن اللؤلؤي، استنبطت مؤسسة "هارفست بلاس" وغيرها من المجموعات البحثية، عشرات الأصناف الجديدة من المحاصيل، عن طريق برامج التربية التقليدية أو التعديل الوراثي، لتصبح ذات قيمة غذائية أعلى، أو أكثر قدرة على مقاومة الآفات أو تحمل الطقس المتطرف مثل الجفاف وموجات الحر.
والهدف من وراء هذه التجارب هو تحسين صحة الفئات الأكثر فقرا والأكثر عرضة للأمراض في العالم. وقد اقتُرِحت حلولٌ عديدة لمعالجة نقص المغذيات الدقيقة، كان على رأسها إضافة المغذيات الدقيقة إلى الأطعمة الشائعة أو تناول مكملات غذائية. إذ تشجع بعض الدول الحوامل على تناول أقراص حمض الفوليك. ويضاف الحديد والفيتامينات إلى الكثير من حبوب الإفطار.
لكن المكملات الغذائية ليست في متناول الجميع، وإذا لم يملك الناس المال الكافي لشرائها فقد لا يحصلون على كفايتهم من المغذيات الدقيقة، بحسب "بي بي سي".
ولعل الطريقة الأبسط هي تحسين القيمة الغذائية للمحاصيل لتصبح غنية بالمغذيات الدقيقة. ومن هنا ظهرت فكرة "التعزيز البيولوجي" أو ما يسمى بالإغناء البيولوجي، لزيادة محتوى المغذيات الدقيقة، كالحديد، في المحاصيل الزراعية.
ويقول فيفر إن الشركة لديها الآن أكثر من 300 صنف من هذه المحاصيل، وطرحتها في أكثر من 35 دولة. ويستهلك هذه المحاصيل أكثر من 50 مليون شخص.
ويقول فيفر إن إنتاج المحاصيل المدعمة بالعناصر الغذائية يتطلب الإجابة على ثلاثة أسئلة، أولا هل يمكن إضافة المغذيات المطلوبة إلى المحصول دون التأثير على خصائصه الأخرى، مثل وفرة الغلة أو مقاومة الجفاف؟
وثانيا: هل سيتمكن الجسم من امتصاص الكميات الإضافية من المغذيات في المحصول وهل ستتحسن الحالة الصحية؟ وثالثا: هل ستجد هذه المحاصيل المدعمة بالعناصر الغذائية قبولا لدى المزارعين والمستهلكين؟ فقد يرفض المستهلك المحصول الجديد بسبب لونه أو شكله المختلف عن المعتاد.
ونجحت "هارفست بلاس" في استنباط أصناف من المحاصيل الغنية بفيتامين أ في أفريقيا وأضافت إليها البيتاكاروتين، الذي يكسب المانجو والجزر واليقطين لونهم البرتقالي.
وطرحت "هارفست بلاس" الذرة الغنية بفيتامين أ في زامبيا. وأشارت بعض الدراسات إلى أن هذه الذرة البرتقالية لاقت إقبالا من المزارعين والمستهلكين، رغم أنهم يفضلون الذرة البيضاء. وكشفت دراسة عن أن تناول الذرة الجديدة أسهم في تحسين استجابة حدقات عيون الأطفال للضوء، ما يدل على أن الذرة المدعمة بفيتامين أ تحمي الأطفال من مشاكل الإبصار مستقبلا.
ويزرع المزارعون في رواندا الفول المعزز بالحديد الذي طورته "هارفست بلاس"، بعد أن ثبت أنه يساعد في معالجة نقص الحديد في غضون 128 يوما.
وواجهت شركة "هارفست بلاس" مشكلة أخرى في أمريكا اللاتينية. فعلى عكس آسيا وأفريقيا، لا يعتمد سكان أمريكا اللاتينية على محصول واحد فقط.
بل يتناول السكان الأرز والفول والكسافا والذرة وطائفة من المحاصيل الأخرى. ولهذا اقترحت ماريليا ريجيني ناتي، مديرة فرع "هارفست بلاس" في أمريكا اللاتينية، برنامج "سلة الغذاء"، لتحسين القيمة الغذائية لعدة محاصيل من خلال التهجين الانتقائي.
واهتمت الشركة بتحسين القيمة الغذائية لنبات اللوبيا، الذي يعد مصدرا جيدا للبروتين كونه من البقوليات. وتقول ناتي إن اللوبيا من أهم المحاصيل في البرازيل لأنها تنمو في التربة القاحلة.
ولهذا تعد اللوبيا الطعام الأساسي للسكان في المناطق الجافة والفقيرة شمال شرقي البرازيل. وقررت الشركة زيادة محتوى الحديد والزنك في محصول اللوبيا.
ولمعالجة نقص المغذيات الدقيقة في المدن في أمريكا الجنوبية، عمدت الشركة إلى تحسين القيمة الغذائية للمحاصيل التي قد تستخدم في صناعة الأغذية. إذ طورت الشركة في كولومبيا الذرة المعززة بالزنك، واستُخدم دقيق هذه الذرة في تصنيع المخبوزات التي تباع في المدن. ويأمل الفريق أن تسهم الأغذية المنتجة من محاصيل مدعمة بالعناصر الغذائية في الحد من نقص المغذيات الدقيقة في المدن.
وعلى عكس الاعتقاد الشائع، فإن الأطعمة المطهوة والمعالجة لا تحتوي بالضرورة على نسبة منخفضة من المغذيات الدقيقة. إذ أشارت دراسة أعدتها هيئة الأغذية والدواء الأمريكية إلى أن كمية الحديد التي يحصل عليها الناس من الموز المطهو تعادل كمية الحديد التي يحصلون عليها من الموز النيئ.