الرسالة نت – محمد بلور
هذا الفريق الثلاثي الماثل أمامكم في الصورة صارع الحياة لأكثر من 18 سنة بعيدا عن حضن الأسير المعتقل جلال صقر .مرّ شريط العمر بطيئا للغاية في حياة ثلاث فتيات جاهدت والدتهن فيها لتجسّد دور الأب والأم في أن واحد .
تسمّرت البنات مليا أمام كثير من القرارات احتياجا لحكمة وقوة رجل كان من الطبيعي أن يكون والدهن الذي غيّبه السجان الصهيوني .تزوجت اثنتان من بنات جلال47 سنة وتستعد الثالثة للزفاف بعد شهور لتجد الأم نفسها أمام رحلة انتظار مجهولة النهاية لزوج محكوم بالمؤبد.
أب مفتقد
ابنته البكر "الخنساء" أو تماضر كما ينادونها الأوفر حظا من بين أخواتها ففي ذاكرتها أطياف لقاءات طفولية مع والدها في المنزل .وقال تماضر 22 سنة وتعمل الآن بوزارة التربية والتعليم بعد حصولها على دبلوم "سكرتاريا" إنها تحتفظ بذكريات بسيطة فقد اعتقل والدها وهي بنت 4 سنين .
تهز برأسها وتضيف: "يذكرني هو حين كنت أجرى إلى حضنه حتى رحل وبقيت أمي تعوضني كل لحظة حنان –يختنق صوتها-فقد كنت بحاجته دوما" .
أصرّت في كثير من زياراتها له في المعتقل على البقاء إلى جواره وذكّرها هو دوما بالاهتمام بالصلاة والدراسة .
القصة التالية لابنته الثانية آلاء 20 سنة وحاصلة على دبلوم "وسائط متعددة" فقد اعتقل والدها وهي بنت سنتان لا تذكر من والدها شيئا .وأضافت:"يذكرني هو بهربي منه وهو يحاول احتضاني وعندما بدأت أزوره في المعتقل شعرت بلحظات سعيدة إلى جواره ولم أره الآن منذ 8 سنين".
أما أصغر بناته فتدعى أفنان وعمرها 19 سنة وتدرس في السنة الأولى لتخصص الأحياء فقد اعتقل والدها وهي بنت 4 شهور في أحشاء أمها ففتحت عينيها على غيابه.
ذاكرة أفنان خالية من الذكريات فلا عهد لها بأب معتقل ما يضطرها كثيرا للصمت أمام حديث أخواتها فهي لا تملك مادة للحديث عنه .وأكدت زوجة جلال أنها ربت ثلاث بنات كل واحدة منهن تمتلك شخصية مختلفة ما ألزمها لإتباع أساليب مختلفة مع كل واحدة منهن في ظل حاجتهن جميعا لها.
قرارات حاسمة
أبحرت قوارب الفتيات الثلاثة ضد التيار طوال السنين الماضية واصطدمت بكثير من الظروف والقرارات الحاسمة كان أقلها بحاجة لوجود الأب .
بالنسبة للخنساء احتاجت له في قرارات حاسمة أهمها يوم تزوجت ويوم رزقت بابنها البكر الذي ما لبث أن توفي , لم تتخيل يومها كيف تجاوزت محنتها.
يوم توفي طفلها تذكرت أن والدها أسماها الخنساء وأن لزاما عليها التضحية بأبناء المستقبل شهداء لأجل الدين والوطن .تدور بعينيها في فناء البيت وتركز على صورته المعلقة على الجدار وتضيف:"كان موجود لكنه غاب لأسباب فرضها الاحتلال" .
واحتاجت الخنساء لمساندته يوم قررت اختيار تخصصها "الأدبي أو العلمي" في الثانوية وكذلك يوم نتيجة الثانوية العامة أي تخصص جامعي تختار ؟! .أما آلاء فأكدت أن الفتاة بحاجة لوالدها في كل الظروف وأهمها على نفسها كان قرار الزواج وأنها تفتقده في العيد وإجازة الصيف.
تحرك راحتيها مضيفة: "كنت بحاجة له في كل قراراتي فهناك فجوة حاولت أمي سدادها لكنها هي أيضا بحاجة للزوج وقد افتقدته حين اخترت تخصصي الدراسي" .بدورها اكتسبت أفنان خبرة من أختيها في اتخاذ القرارات وسط غياب الأب فمرت عليها الظروف بمشقة أقل دون تجرّع الحيرة في اختيار تخصصها الدراسي .
شكلت الأم عامل دعم نفسي ومعنوي لأفنان الصغيرة فدأبت على تحفيزها أمام كل قرار ومرحلة وتدعوها للتأسي بأختيها .
الخطبة
في أصابع البنات الثلاثة خاتم زواج لم يشاهده قسرا الأب المعتقل أو يشرف على يوم الاحتفاء به .
وقالت الخنساء: "كابنة أسير لا يوجد رجل في حياتي لا أب ولا أخ وحتى لما تزوجت أشعر بحاجتي لأبي وقد تقدم لخطبتي ابن خالي ".
كانت أجواء الخطبة طبيعية في كل شيء سوى غياب الأب فتواصل أهل العريس مع الأعمام والأم وجاءت مشورة الأب المعتقل عن بعد ثم صلاة الاستخارة فالزواج.
وفي مشهد مشابه خطبت ألاء من ابن خالها الثاني وهي التجربة الثانية لأسرة المعتقل جلال صقر وقد تمت بنفس الظروف السابقة .
أما أفنان أصغر بنات جلال فأتاها الخاطب من غير الأقارب وشعرت يومها أنها بحاجة حقيقية لقرار الأب .
وأضافت أفنان:"كانت الخطبة مختلفة عن خطبة شقيقاتي فهو ليس من أقاربي والقرار كان بالنسبة لي مصيري وسأنتقل للسكن في بيت لا أعرفه".
تبسّمت أفنان عندما قالت إنها تشبه خطيبها في كونهما أصغر الأبناء في أسرتيهما وقد جاءت موافقة الأب كما في السابق ومشورته عن بعد .
وقالت الأم إن زواج بناتها كان بحاجة لحضور أبيهن خاصة أن كل واحدة ستنتقل لبيت زوج وحياة جديدة .
الزواج
يوم الزفاف مرّ مختلف على منزل الأسير جلال صقر فمن المفترض أن تمسك راحته بيد العروس وهي تخطو خارج باب البيت كما العادة .
بالنسبة للخنساء حاول والدها أن يشعرها أنه يرافقها في كافة تفاصيل الزواج ويسأل عن كافة الترتيبات .
ولم تحظ الخنساء بزيارة والدها منذ 8 سنوات بذريعة المنع الأمني , حتى صور الزفاف ورسالة خطية لم يسمح الاحتلال بإيصالها لوالدها .إما آلاء فتصف يوم زفافها بالقول:"كان لابد من وجوده لأن الرجل أكثر في حكمة ودراية بترتيبات الفرح" .
إما زوجة جلال فأكدت أنها لا تشعر بغياب بناتها المتزوجات فهن دائمات زيارتها بشكل شبه يومي .
ووصفت الأم يوم زفاف ابنتها الكبرى الخنساء بأنه يوم صعب فقد كانت دوما أكثرهن احتياجا لأمها وأكثرهن تعلّقا بذكرى والدها .
ومن المقرر أن تتزوج أفنان في مارس المقبل ليخلو البيت على والدتهن التي ربتهن وأوصلتهن لبيت الزوجية وهي لازالت تنتظر تحرير زوجها ليلتئم شمل الأسرة .