خليط من ألوان وخشب، وفوقها وطن مسحوق مغتصب، كلها شكلت جمل المحامل، اللوحة التي تفتحت عليها عيوننا منذ الصغر، وعلقت على كل جدار فلسطيني في الوطن والشتات، ذكريات الحمل الثقيل الخالد فوق الأكتاف حتى اليوم.
لوحة "جمل المحامل" هي السر الكبير الذي أخذ صاحبها الفنان المقدسي المشهور سليمان منصور إلى العالمية، ثم تحولت إلى أيقونة وحملت القضية.
جميعنا يعرف اللوحة، ولسنا جميعا نعرف الفنان، الجندي المجهول وراء الريشة والألوان، اللوحة التي لم تكن نسخة واحدة له بل ثلاث لوحات، أي ثلاث نسخ من لوحة جمل المحامل رسمها منصور بريشته، أما الأولى فرسمها عام 1973.
ومع اختفاء النسخة الأولى من اللوحة أطلق الفنان الفلسطيني خالد حوراني كتابه الذي حمل عنوان "البحث عن جمل المحامل"، ليروي حكاية اللوحة التي اختفت واكتنف الغموض مصيرها لفترة طويلة من الزمن حتى عام 2015.
حينما عرضت النسخة الثالثة من اللوحة للبيع في مزاد للوحات الفنية في دبي اتصل على منظمي المعرض مقتن بريطاني للوحات النادرة ليعلمهم أن النسخة الأولى المفقودة منذ أعوام لديه!
يذكر أن هناك نسخة ثانية للوحة رسمها منصور عام 1975 والتي قدمها هدية إلى العقيد الليبي معمر القذافي لكنها فقدت في الضربة الأمريكية لليبيا عام 1986.
وإذا أعطينا منصور حقه من الكلمات لا ننتهي، فهو ابن عائلة مناضلة عريقة تحولت لوحته إلى أيقونة عربية عالمية، تتوسطها القدس بصورتها الأقرب على مدار سنوات طويلة من الألم وكأنها حِمل على أكتاف العربي الفلسطيني ستظل إلى أن تعود.
وقد شكلت أعمال منصور بصمة فنية متميزة يغلب فيها حضور القضية الفلسطينية، استطاع أن يخرج الفكرة من حدودها الى العالمية بكل بساطة وعمق فكانت جمل المحامل اللوحة التي لا تنسى عبر عقود طويلة، بل أصبحت نموذجا يدرس في كليات الفنون الجميلة حول العالم.
منصور، مواليد بيرزيت عام 1947، يرى أن عناصر لوحته الشهيرة جمل المحامل هي ما شد الجمهور اليها، العتال الذي يذكرنا بجذورنا ومأساة أجدادنا.
ويرى الفنان أن فترة الثمانينات التي اشتهرت فيها اللوحة كانت فترة ثقافية ناجحة جدا للشعر والأدب والموسيقى والمسرح وكان لها دور كبير لتأكيد الهوية الفلسطينية وارسال الرسائل القوية عبر الفن الفلسطيني.
وفي عام 2017 ترجل جبل المحامل على يد النحات العراقي أحمد البحراني وتحول إلى منحوتة مبهرة من البرونز، عرضت للمرة الأولى في أحد المعارض الفنية في قطر حيث يقيم النحات العراقي.
ولكن، لماذا انتشرت جمل المحامل بهذه الطريقة، هل كانت بداية قوية أم لأنها اختصرت كل ما يريد الفلسطيني قوله في لوحة؟ يعلق الفنان الذي يعتبر اللوحة الأحب لقلبه:" ثمة أعمال أكثر تميزاً بالنسبة لي منها، إلا أنني أحب جمل المحامل ليس لمركباتها الفنية، بل لأنها بداية المسيرة(...) كنت أراها متميزة، لكني لم أتوقع أن تصل الى هذه الدرجة من الشهرة والانتشار".
مارس منصور التصوير الزيتي وعمل رساما كاريكاتيريا في عدد من الصحف المحلية، وله منحوتات عديدة من النحاس والخشب والجبس، والكثير من جداريات الفسيفساء.
وقد استخدم منصور المواد المحلية الفلسطينية كتجسيد لموقف سياسي فأخرج أعمالا فنية مكوناتها الطين والتبن فقط لينقل رسائله السياسية عبر أعماله.
وحصل على عدة جوائز منها: "الجائِزة الأولى في معرض الربيع الأول، فلسطين، 1985. وجائِزة فلسطين للفنون التشكيلية عام 1998. والجائِزة الكبرى في بينالي القاهرة التاسِع عام 1998، وجائزة اليونسكو- الشارقة للثقافة العربية لعام 2019.
قدم منصور عشرات اللوحات الفنية والأعمال والمنحوتات والجداريات وظلت جمل المحامل الأقرب الى قلب الفنان منصور: "أحبها لأنها حملتني إلى مصاف المشهورين وتحولت إلى أيقونة، وثمة غيرة في داخلي منها".