غطي ياسمين الصباح بسنابل شعرك الذهبية، وقولي للشمس بأننا كنا ننتظرها اليوم، لنبدأ ضحكة جديدة، فأنت ابنة البدايات يا جنى، وأنت المستقبل الجميل القادم.
وراء كل صورة قصة، ووراء كل قصة غزة، التي ما زالت تخرج من بين الركام ضحكات يسمعها العالم، وصور ترسم بدايات كثيرة، ووراء كل صورة قصة، نقشها أصحابها بالدمعات كثيرا، وربما خرجوا بها من تحت الردم، لكنهم ضحكوا للكاميرا في لقطة عابرة، حتى تظهر الصورة أجمل.
بدأنا هذا العام الدراسي قبل أيام بكثير من الصور، كانت هذه الصورة واحدة من أجملها، الأب الذي يظهر كدحه على ملابسه البسيطة ونعال قدمه المهترئ، وهو يرسم ضحكة عميقة الملامح بينما تحمل يده اليمنى حقيبة ابنته الزرقاء، وتحتضن يده اليسرى يد ابنته جنى بمريول الروضة وهي تحرك شعرها الأصفر يمينا ويسارا مع نسيم الصباح.
الفرحة في قلب الأب ليست الأولى، فهو أب لخمسة أطفال آخرين، اثنان أكبر من جنى، وهذان لهما حكاية أخرى، لا يعلم تفاصيلها سوى أبو صالح ولكنها محفوظة في سجلات الحرب الأخيرة على غزة.
تذكر أبو صالح وحكى لنا تفاصيل الذكرى:" كنت متزوجا في الحرب الأخيرة ومعي طفلان، وبينما كانت زوجتي وأطفالي في زيارة لمنزل والدها هربا في ظروف الحرب، قصف منزل العائلة واستشهدت زوجتي ووالديها وأخوتها، رحل عشرة أشخاص بقذيفة إسرائيلية، بينما لم أعثر على طفلي في تلك اللحظة في أي مكان، فقد اعتقدت أنهما دفنا تحت الركام!
ويكمل:" لم أتخيل أن أجد طفلي معلقين على رأس الأشجار في الأرض المجاورة، وقد كان عمر الابن ثلاث سنوات بينما البنت أربع سنوات حينما أنزلتهما من فوق الأشجار وأنا غير مصدق بأن طفلي على قيد الحياة!
أصيب الطفلان بكدمات متفرقة في أنحاء الجسد، سرعان ما عالجها الزمن، وبقيت كدمة في القلب لا علاج لها، فالطفل صالح لازال على مدار ست سنوات يفرض وأخته على والده معاناة خاصة لأنهما لا زالا منذ أيام الحرب يعانيان من تبعات فقد أمهما، فتختلط المواقف كلها لديهم بالبكاء والدموع، ويعتقد والدهم أن ذكريات ما حدث لا زالت ترسم كل تفاصيل حياتهما.
يبيع أبو صالح الترمس في شوارع المنطقة الوسطة، يغيب في يومه الطويل متنقلا بين المدارس ويقف بعربته الصغيرة ينادي على بضاعته المتواضعة حتى يخرج بعشرين شيكل يوميا على أبعد تقدير ليصرف على عائلة أنتجت أربعة أطفال من زوجة جديدة بدأت معه بداية جديدة بعد الحرب، وكانت جنى رفيقته في الصورة هي أولى البدايات.
سألنا أبو صالح عن الصورة فقال بلهجته البسيطة" أشعر أن الله رضى عني وعوضني بزوجة طيبة وأبقى أبنائي على قيد الحياة، وأعطاني جنى فرحة أولى بعد الحرب مباشرة وحينما سرت معها لأوصلها إلى الروضة، يوم باغتنا المصور بتلك الصورة التي انتشرت وأسعدتني جدا، كنت فرحا بها لأني استطعت أن أدفع رسوم الروضة وشراء الزي وإدخال البهجة على قلبها، لقد كانت جنى سعيدة جدا".
ويعاني أبو صالح من ضيق الحال، فهو يعيش وأسرته في بيت في مخيم المغازي من غرفتين ولا زال يعالج جراح ابنيه اللذين لا زالا يذكران كل ما حدث لهما في الحرب الأخيرة، ويبكيان كلما خطر في بالهما ذكرى لأمهما التي قتلتها الحرب.
قتلت الحرب كثيرين منا، ولا زالت ذكراها بعد مرور ست سنوات عليها تتقلب كل عام، مع كل صورة وكل حدث، للحرب دوما يد خفية في صناعة ذكرياتنا، حرب قتلت وشردت أكثر من خمسمائة طفل في خمسين يوما.
ولكن.. رغم النهايات السعيدة لا زالت هناك بدايات ترسم خطوط اللا نهاية للمستقبل المجهول، مستقبل رسمته جنى في أولى خطواتها التي أعادت للأب فرحة سرقتها الحرب.