لا يظهر منه سوى صوته الذي هرب من فتحات القناع الذي يغطي رأسه، كان يغني، ثم يدندن مبتسمًا، أمام مريضٍ لا يقوى إلا على محاولة جديدة للنجاة من "كورونا"!
كان الوصال ترانيم أغنية، لامست قلب المريض في فراشه فابتسم، ظهر لنا ممسكًا بيد الممرض قبل أن يشكره على هذه اللفتة الجميلة.
الحكيم أحمد النجار أهداه الله صوتًا عذبًا، لم يبخل به على المرضى، لاسيما لأحد مرضى كورونا في مستشفى الصداقة التركي وسط قطاع غزة.
لم يكن أحمد وحده من أهدى لحنًا للمصابين، فشرفات هذه المدينة شاركته لحنًا من نوع مختلف في تمام التاسعة مساءً!
كي يزول الألم!
على الشرفات غنت غزة كذلك، تارة "سوف نبقى هنا كي يزول الألم"، وتارة أخرى "موطني موطني"، ثم صفق الجميع من النوافذ لطواقم الشرطة المنتشرة في شوارع المدينة ليلًا!
انهالت الدعوات عبر منصات التواصل الاجتماعي ضمن مبادرة لرفع معنويات الطواقم الطبية والأمنية التي تبذل جهوداً كبيرة في خدمة أبناء القطاع لمواجهة الوباء.
مبادرة النشطاء كانت بدعوة سكان غزة لتوجيه التحية كل يوم في تمام الساعة التاسعة مساءً من خلال التصفيق واطفاء واضاءة الأنوار عدة مرات تحية لرجال الأمن والطواقم الطبية.
منذ الساعات الأولى لإعلان وزارة الداخلية حظر التجوال في محافظات غزة مساء الاثنين الماضي عقب تسجيل إصابات بفيروس كورونا بدت الشوارع خالية من المارة، إلا من رجال الأمن والطواقم الطبية تلبية لنداء الوطن والواجب.
مدينة العتمة غزة، الحياة فيها أربع ساعات فقط، بالتناوب يصل التيار الكهربائي على المنازل، ورغم ذلك استطاع السكان الإنارة باستخدام كشافات هواتفهم النقالة تحية للشرطة الفلسطينية وجهودها لمنع تفشي الوباء.
في ظل ظروف صحية غير مسبوقة استطاعت غزة عزف لحنها الخالد للصمود والثبات في وجه هذه الحرب الفيروسية، فلم يترك عناصر الأمن فيها أماكنهم على المفترقات، العطاء دائم بالنسبة لهم رغم دخول القطاع مرحلة الطوارئ وبدت فيها حالة الاستنفار واقعًا.
طريقة خاصة!
لكلٍ طريقته الخاصة في التعبير عن امتنانه، وان كانت إيطاليا ودول أوروبية أخرى قد اختارت التصفيق من الشرفات وسيلة لتحيي رجال الشرطة والطواقم الطبية كما حاكتها غزة، إلا أن الأخيرة حين تصفق أو تغني تبدو بالنسبة لها ولنا كوجه آخرٍ للتمرد!
ابنة البحر، هذه المدينة الساحلية التي تواجه المجهول دائمًا رغم قلة إمكانياتها، وشح وقودها، وطاقتها، وإحكام الحصار حول خاصرتها، يبدو عزفها وغناء شرفاتها متميزًا عن الجميع!
ما فتئت سيارات الشرطة الفلسطينية تتجول في أحياء القطاع، ورؤوس الصغار والكبار تخرج من النوافذ موجهة التحية بصوتها العالي لرجال الأمن.
لا تريد غزة إلا شيئًا واحدًا، أن يسلمها الله وأبناءها من هذا الوباء وتعود لتغني دون الحاجة لإخفاء ملامح وجهها بالكمامة!
هذه المدينة الوحيدة التي تبكي وهي واقفة، لا تركع، تستطيع مسح دمعها بسرعة ملفتة، غزة المنكسرة والعصية على الانكسار، تحفظ أغنيات للبهاء والأمل، ثم لا تنام قبل أن تغطي أبناءها بحلم قد يتحقق يومًا!