إنها ستة أشهر متبقية يا داود الخطيب، ألم يكن عليك أن تنتظر قليلا، أو تحتمل أكثر، أم أن هذا "الحيل" لم يعد قادرا على التحمل، أو أن عدد الساعات التي تتناقص كل يوم وصولا إلى بوابة الحرية لم يعد يعنيك شأنها .
رحيل قبل ستة أشهر من الإفراج، من قال أن الكثير قد فات ولم يبق إلا القليل، إنه القليل الذي يعادل ألف سنة من العذاب، عذاب الانتظار، واللوعة وأشواق اللحظات الأخيرة قد يقتل أحيانا .
النظرة إلى صورتك وأنت تحدق بنظرة ثاقبة وملامح قاسية تدعو للظن -والظن ظالم- أنك تقدر على تحمل كل هذا الأسى، وتحملت!! ولكنك في اللحظات الأخيرة أعلنت قرارك ورحلت، لتثبت للعالم الذي يضع على أكتافنا كل هذا الأسى، أن هناك نقطة أخيرة للانهيار، تأتي مباغتة وفجأة هكذا، ولسنا جميعا "جبل المحامل" كما يعتقدون فثمانية عشر عاما من الأسر خلف قضبان الحديد كفيلة بأن تذيب الحديد .
هكذا أعلن بهدوء وفي ساعات الليل بالأمس عن استشهاد الأسير داود الخطيب ، حيث قال نادي الأسير، مساء أمس أن الأسير التلحمي قد سقط في سجن "عوفر" الاحتلالي المقام غرب مدينة رام الله، بعد تعرضه لجلطة قلبية حادة، نتيجة الإهمال الطبي المتعمد.
ووفقاً للرواية التي خرجت من الزنزانة فقد تعرض الأسير الخطيب لجلطة قلبية، وهو محكوم بالسجن 18 عاماً و8 أشهر، وتبقى من محكوميته ثلاثة أشهر فقط، بعدما دخل السجن في شهر نيسان 2002، وكان من المقرر أن يفرج عنه في الرابع من ديسمبر القادم .
ولكي تكتمل لعبة القهر، ولأن هذا احتلال يدعي القانون فلروايته بقية تفيد بأن داود لن يخرج غدا، ولن يسلم جثمانه لعائلته، بل عليه أن يكمل ثلاثة أشهر أخرى، تلك المتبقية من محكوميته، كيف ؟!! سيحتجز جثمانه في ثلاجة باردة حتى انتهاء فترة الحكم، أي ظلم مركب هذا ؟!
وفي سجن عوفر، ثار الغاضبون المأسورون حزنا على رفيقهم، الذي ينتظر حريته بعد ثلاثة أشهر، بعد أن ترك حسرة في قلوبهم فاستنفروا، غضبوا، صرخوا من الزنزانة 12 و11 على فرقة زميلهم، أعادوا وجبات طعامهم تعبيرا عن غضبهم، وعلى سياسة الإهمال الطبي التي تنطبق عليهم جميعا فلا يعرفون أيا منهم هو الشهيد القادم !
وحينما غضب الأسرى، انطلقت قنابل الغاز في وجوههم داخل الزنازين، قمع يتلوه قمع، وحسرة أصبحت تاريخا سجل 225 شهيدا داخل الزنازين بعد سياسة اهمال طبي طويلة من مصلحة السجون الإسرائيلية، ستة منهم محتجزون في ثلاجة باردة.
رواية أسباب الموت تصل مقتضبة، تأتي من جانب واحد يلقيها المحتل على مسامع الرأي العام، فلا رواية فلسطينية في كل جريمة، لأن لكل أسير قصة ممنوع عليه أن يحكيها، وممنوع من مقابلة محاميه، وممنوع تسليم جثمانه لينال دفنا لائقا كما تقول قوانين الإنسانية .
وفي السياق ذاته نددت لجنة الأسرى للقوى الوطنية والإسلامية في قطاع غزة بالسياسات العنصرية الإسرائيلية التي تستهدف حياة الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين وعلى رأسها الإهمال الطبي المتعمد التي طالت عددا كبيرا من الأسرى.
كوورنا، ومنع من الزيارة، وموت من الإهمال الطبي، ورش بقنابل الغاز في الغرف المغلقة بالحديد، ومصادرة للجثامين، وقهر لحظات الانتظار الأخيرة التي تحول الفرحة إلى جنازة الغائب، أثمان لا يدفعها إلا الأسرى وحدهم .