كم مرة انزلق فيها طبيب الإنعاش خالد خلف باب العناية مجهدًا، وكم مرة أخفى دمعاته عن زملائه! المرة الوحيدة التي أخبرنا بها بانهياره كانت عند اتصاله بزوجته ليبلغها بكتابته لوصيته، طالبًا منها الاعتناء بطفليهما وليد وعماد!
ما بين الموت والحياة هنا شعرة، إنعاشٌ قلبي رئوي، بلا هوادة من هذا العدو الذي يفترس الجهاز التنفسي للمرضى، "كورونا" المتعطش للموت!
ستة أيام قضاها طبيب التخدير خالد شبير 42 عامًا في قسم العناية المكثفة بمستشفى "الأوبئة" الأوروبي بخان يونس جنوبي القطاع، بين صوت جهاز قياس نبضات القلب، وصرخات أجهزة الإنذار، يكتشف أنه حي، يتحسس ضربات قلبه، لازالت تنبض!
ملابس وحدة العناية المكثفة السابقة لم تعد تكفي، الآن أصبح خالد بحاجة لنصف ساعة كاملة حتى يرتدي اللباس الخاص الواقي لحمايته من احتمالية انتقال العدوى له بفايروس كورونا!
نبضات ورجاء!
خالد كان أول طبيب إنعاش يستقبل مرضى كوفيد-19 في مستشفى الأوبئة جنوب القطاع، مهمته الأولى تخدير المرضى ووصلهم بجهاز تنفس اصطناعي، يحدث "الرسالة" عن تلك التجربة فتصلنا تنهيدة طويلة عبر أسلاك الهاتف: "أقسى تجربة.. هذا المرض لا أحد يعرفه، نمط العمل صعب، لستة أيام عمل متواصلة، لم أستطع تحمل أكثر من ذلك".
ستة أيام لم ينم فيها طبيب العناية إلا سويعات محدودة، بدأت قوى خالد تضعف، ملامح الخوف على وجوه زملائه الممرضين، لم يكن الأمر سهلًا هذه المرة كما كل سنوات عمله السابقة في العناية المركزة، كان شاهدًا على آخر أنفاس المرضى، لكن الآن عناية مكثفة لكورونا.. لا أنفاس هنا!
بدأت حالة استعداد خالد لمعركته الجديدة بتجهيز نفسه لاستقبال أول حالة تصل العناية في الــ 26 من أغسطس آب الماضي، بالتعقيم وارتداء ملابس الوقاية الخاصة.
نبضات قلب المريضة تخترق أذنيه، حالتها حرجة، ونسبة الأكسجين في الدم 30 فقط، ومع كثير من أجهزة المراقبة من حولها كالشاشات، الأنابيب، الأسلاك، بدأت تختفي ملامح المصابة، إلا من صوت رجائها وتوسلها الأخير قبل تخدير خالد لها "أمانة تلحقني يا ابني"!
سيدة، أول من وصل قسم العناية المكثفة، الطبيب خالد يحفظ تاريخ وصولها واسمها وذبول عينيها، لا تغيب ملامح تلك السيدة والتي ترقد حتى كتابة هذه الحروف على سرير العناية!
حاول خالد أخذ تاريخ المصابة المرضي قبل وصلها بجهاز التنفس الصناعي، أجابته "بس سكر.. أنا مريضة سكر"، يعلق خالد: "أهم حاجة أحافظ على تنفس المريضة، حاولت قدر الإمكان طمأنتها قبل وصلها بالأجهزة (...) راح تعيشي يا حجة وتتذكري كيف تغلبت على كورونا".
موت وكلور وهواجس!
انتهى خالد من الحالة الأولى، يراقب، يتابع الأسلاك والأرقام، ترتجف يداه، تحاول حنجرته تجرع كوبٍ من الماء، يتصبب عرقًا، ثم يؤكد "أشعر وأنا أرتدي هذه الملابس أنني أغرق في بركة سباحة"!
هواجس انتابت الطبيب خالد مباشرة بعد انتهائه من التعامل مع المصابة الأولى، ويصف ما يشعر: “أتخيل أن المريض سوف يستيقظ، يقطع الأجهزة، يصرخ، يطلب النجدة، وأنا لم أنته بعد من ارتداء هذه الملابس والأقنعة الخاصة التي تحتاج لوقت وتعقيم، أشعر بالخوف والإحباط معًا!
اتصال جديد لغرفة العناية، "خالد، لقد وصلت الحالة الثانية، استعد"، لم يلتقط هذا الطبيب أنفاسه بعد!
عاد مسرعًا لغرفة الغيار، معاودة ارتداء الأقنعة وملابس الوقاية، واستقبال حالة جديدة وآخر تمتمات المريض "أنا بقول لك يا دكتور أنا حموت الآن"، ورعشة القلب لكليهما، كل ذلك يجعل من الصعب خروج خالد من هذه الحالة!
بين الإحباط من موت الحالات في العناية، وطريقة تعقيمها، تيبس جسد طبيب العناية واثنين من زملائه المرضى أمام جثمان تُرك بينهم لساعات قبل استلام وزارة الصحة له، من أجل تجهيزه وتعقيمه!
مات فعلًا هذا المريض الذي يعاني مشاكل في القلب، بعد ساعة من محاولة انعاشه وتركيب جهاز التنفس الصناعي له.
اعتاد خالد على خروج الروح بين يديه، وعلى رؤية المريض وقد تحول لميت، لكنه لم يعتد بعد أن يُرش المريض بالكلور دون أن يُغسل أو يُكفن!
يقول بصوت مرتجف: "مشهد مهيب، جسد الميت وملابسه ابتلت بالكلور، تشبعت به، والفائض منه كان يتساقط من فوق سريره كزخات المطر، لم يغسل أو يكفن، وضعوه في حقيبة خاصة بموتى كورونا، وحملناه وزملائي لسيارة الإسعاف، هذا الموت مؤلم"!
ساعة واحدة لم ينته خالد فيها من قراءة الفاتحة على روح المتوفى، حتى وصلت الحالة الثالثة، التي لم تظهر عليها أي أعراض سوى الكحة!
"ليسوا مسنين جدًا" أكد لنا طبيب التخدير ذلك، فالحالة الأولى كانت بعمر الستين والحالة الثانية التي توفيت كانت لرجل بعمر الــ58 والثالثة سيدة لا تشكو سوى من كحة في حنجرتها، والرابعة تعاني من السكر، وجمعيهم نهش الفيروس صدورهم!
وليد ودمعات عماد!
عبر الهاتف روى خالد شبير الطبيب المختص في التخدير والعناية المكثفة يوميات عمله خلال معالجة مرضى فيروس كورونا المستجد على مدار ستة أيام، لكنه لم ينس أن يخبرنا عن لحظة خروجه من المنزل ودمعات طفله عماد!
"بابا بدو يروح عند الكورونا ليش؟" " راح يمسك الكورونا بايده؟" ما فتىء عماد ابن الثامنة تكرار هذا السؤال منذ اللحظة الأولى الذي وصل الاستدعاء لوالده للعمل في عناية كورونا!
خوف الصغير على والده، كان من ادراكه أن كورونا مرض معد، ينتقل بالملامسة، حاول خالد تهدئة صغيره، وتذكيره بأنه سيذهب لينقذ المرضى من هذا الفيروس حتى يعيشوا بصحة جيدة وتموت "الكورونا".
لا ينكر خالد أنه يخشى الإصابة في أي لحظة، موضحًا "الاتصال بيني وبين جسد المصاب 30 سم فقط، أي غلطة تؤدي لانتقال العدوى، ان كان من تركيب "الكانيولا" في وريد المريض أو في القلب مباشرة، يتخلله خروج دم، وكذلك من رذاذ المريض، أو تنفسه".
يحتفظ خالد في جيبه ببضع حبات من اللوز وقطع شوكولاتة مرة، يؤكد لنا وقد وصلتنا شبه ضحكةٍ تسللت من بين ضيق صدره "بين الفترة والأخرى أختبر نفسي، لأتأكد أني أتذوق وأشم، من فرط التعب يجد خالد وقتًا ليمازح زملاءه وهم يتذوقون الحبات تباعًا، ويتأكد جميعهم أن حاسة التذوق لديهم فعالة، ولم تصلهم العدوى بعد!
ختم الطبيب خالد تجربته مع مرضى كورونا في العناية المكثفة: "تجربة عنيفة، أشعر بالضغط النفسي، أنا أحدثكم الآن ولم أتوقف عن المشي في حديقة العزل، أتفقد جسدي، أستطيع المشي الآن بحرية دون ملابس تعيق حركتي وتخنقني لساعات طويلة".