سيدةٌ على الحاجز ترمي إكليل وردٍ على أكتاف حبيبها علها ترتاح من حمل شوقٍ ثقيل لــ18 عامًا، وأخرى تنثر الورد على جثمان أبنائها الشهداء، وغصة واحدة عالقة في ذاك الإكليل بينهما!
كيف تبدو مشاهد اللقاء والوداع في فلسطين؟ تبدو كمعزوفة لحن حزينٍ، نجا منها اكليل ورد بأعجوبة، أو كأنها لقطات حصرية لمشهدٍ لن تراه إلا هنا!
"الجلمة" ودير البلح!
مشهد خطيبة الأسير صاحبة الإكليل على حاجز الجلمة شمال جنين تخطف حضنًا من سنين الغياب، يدفعنا لنتساءل دائمًا "لماذا تبكي النساء عادة على الحاجز؟!"
على هذا الحاجز ولد الأمل لعوائل الأسرى، ترى الحبيبة تبكي الغياب، والأم تبكي الولد، وتلك تبكي لأن والدها غيب في سجون الاحتلال وهي طفلة واليوم يعود لها وهي أم، ثم كيف يفكر أحدنا أن يسأل "لماذا تبكي النساء على الحاجز؟!
كانت الإجابة تختلف في بيت عائلة الزعزوع في مخيم دير البلح وسط قطاع غزة، للبكاء هناك حسرة دون أمل، يعود الولد جثمانًا على الأكتاف، يعود المشهد الأول للأم يوم ميلاده الأول، إنها تزغرد الآن لعريسها الشهيد!
ليس شهيدا واحدا، بل شهيدان، حسن 26 عامًا، ومحمود 22 عامًا، قتلتهما رصاصات الجيش المصري على الحدود البحرية جنوب رفح، في حين بقي ياسر رهن الاعتقال!
يختلف نحيب الأم هنا، تصرخ "يا ريتهم استشهدوا برصاص المحتل مش برصاص مصري" رصاصات "أم الدنيا" كانت من قتلتهم وتركت حسرة في قلب أمهم.
"لقمة العيش المغمسة بالدم" تماما كرحلة صيد بلا عودة، كسنين الحرمان والقهر التي عاشتها جنان سمارة وخطيبها الأسير عبد الكريم مخضر من قرية عمورية قضاء نابلس والتي انتهت بمشهد فرح أبهى من كل الكلمات وثقته عدسات الكاميرا أمام الحاجز!
كانت جنان تركض أمام البوابة كأنها تتحرر من 18 عامًا انتظرت خلالها أن تلمح وجه خطيبها بعيدًا عن زجاج سميك يفصل بينهما يوم الزيارة، نبض جديد دون أصفاد المعاصم، دون حاجتها لشطب الأيام من تقويم رزنامتها كما يفعل أهالي الأسرى أملًا باللقاء، لقد تحررت اليوم على الحاجز!
كيف تتحرر أمهات الشهداء إذًا؟ بتلك الزغرودة التي لم نفهم يومًا سببها لحظة التشييع، تلك المناداة منها لنسوة حولها تطالبهم "زغردوا للشهيد.. زغردوا للعريس"، فرحًا بنهاية تليق بابنها، أم لأنها تدرك أنه عريس هذه الليلة!
لقد تحررت لكنها لن تشفى من وجعها كما جنان ابنة الانتظار، تحررت حين استطاعت أن تخرج أمام جثماني ابنيها تحمل طبقًا ممتلئًا بالورد، ترتدي عباءة سوداء غطى الورد على لونها ثم بقي السؤال على طرف لسانها تردده: "لماذا قتل خفر السواحل حسن ومحمود؟ "وهل بات الصيد في البحر جريمة تستدعي القتل؟"
تخال الأم دماء أبنائها أسرابًا من الفراشات تحوم حولها، تنثر الزهر في سماء جنازتهم، ثم تهديهم آخر زغرودة، تخبرهم بها أنها بخير!
تعانقت زغرودة أم الصيادين في غزة مع اكليل ورد غلفته جنان في الضفة بالحب، ابنة الشوق التي كان قلبها عصفورة تطل من شباك زنزانة عبد الكريم، واليوم هي أصل الحكاية وأم الشهداء!