قائد الطوفان قائد الطوفان

قصة قصيرة بعنوان "الثائر"

بقلم: محمود الراعي

كمثله تتمني الحوامل حمله في بطونها ، تطبطب في أشباهه الأمهات في حنانها، يناديه اندفاع المنادي من بعيد وفي أكفِّه الصغيرين بقايا أتربة من حجارة تتساقط بثقلها على رأس البعيد ، فما باليد من حيلةٍ سواها ، وما في الجُعبِ من مخبوءة تراها ، يتسابق معه الريح في سيطه ، يشتاك منه الخوف في إعصاره ، نظراته فيها مسحٌ من قوة ، وبريقٌ من تحدٍ لا تخرُّه ضعاف الهمم ولا تماثيل الفخار .

على عتبات الدور ينتظرنه النسوة كل يومٍ جديد ، يتفحصنه ، يتناقلن تقمصات سيره ، يتهادين بمحاسنه فلعلهن يتوحمن به فتراهن يلدن بثائرٍ جديد .

دخل البيت ووجه مشحوب المحيا ، شارد الذهن وعينيه ملتحفة بالذهول لبرهة ، سارحٌ بالفكر إن طلبته ، مترهلُ الصوت إن سمعته ، فالحال خُيّل إليه قد طال ، والكل في تكهناته أضحي  بانفعال ، وجدّه على شفير الموت ما زال حَلِمٌ بالعودة عما قريب .

جلس ثائرٌ مع أبيه وظل في صمته سائر ، تنفس بصوتٍ مرتفع ، وتنهد بهواءٍ متقطع ، ثم سرت دمعاتٌ تلتها حسرات ، أسرع نحو النافذة ووقف يتأمل ما تري به عيناه ثم قال: أبي .. الوقت بنا ينفذ، والجدُّ في عمره متعب، أراه يحمل في خلجاته قلباً فيه تأوهاتٍ على أشياء عدة، على الكرم.. على الزيتون ..على الأرض المسلوبة ، كيف الخلاص يا أبي؟ دلني وما أظنك تسقيني الرذاذ.

 نظر إليه الأب في عطفه الدارج وقال : بني .. طريق الخلاص قد أصبح غالٍ ، وفي سبيل الخير المراد يرخص ، افتح بقلبك باب القوة ، وتوسّم بشجاعتك روح الفتية ، ثم زدها بإخلاص للباري سبحانه وأجعله في رأس القمة ، ولا يكن اندفاعك نحو المجهول بالحمية والعصبية ، وتوخاها بحدسك مرة أخري ، حينها لن تذهب إتعابك أدراج الرياح .

حينها أفرغت بوتقة الوالد بما فيها من كلمات واستقرت صهارتها في قلب الثائر إلى حد قد لا تألفُه روح الركود والاختزال .

خرج ساعتها والوجه فيه متهللٌ، ونور السعد في سرّه مستبشرٌ، ناداه صديقه احمد فأشار إليه بتعجّلٍ في المسير.

تقابلت الوجوه وتصافحت القلوب بحبها، ثم تطرق أحمد في تعجّبه من حال صاحبه وما سارت به الساعات في داره  فهو بشوش الوجه ، مفرود الثغر، حاله منقلب!! ، يا ثائر حدثني ما الخبر؟

نظر إليه ثائر وقال له بصوت واثقٍ: غدا ستعرفه ولا مفر..

مرت الأيام بحلوها ومرِّها ، وتبِعتها الشهور في تجمُعها، ثم سارت السنين بحِملها حتى أضحي به العمر العشرين، انطفأت زهرة الجدّ وتوسد جثمانه التراب ولم ينل ما تاقت فيه روحه الأبية .

في مساء يومٍ مشمسٍ تغشاه الغيوم بتلاحقها، سكنت الطيور أعشاشها، وتوسدت الوحوش مخادعها، وتلاحقت الشمس في مغيبها حتى اختفت وسكن الشجون..  

استعد الثائر لليوم المنشود، خرج وطارت في سمائه حمامةٌ تحمل في منقارها زهرة، ألقت بها في طريقه وطارت في الأفق البعيد حتى اختفت، امسك بها وتفحصها وقال لنفسه تلك من عبق بلادي المسلوبة التي سأراها عما قريب.

دخل فرأي ما لم يره من قبل ، رأي روحاً بالأرض متعلقةً ، وأنفسا بها سابحة ، وأفئدة في حقولها تسير، ففاجأه جدّه يعْدُوا في سرعة متناهيةً كريحٍ لا تعرف الحدود ، سار الانبهار في وجهه وقال: ما تلك بأحلام ولا بتكهنات ، فاندفع الثائر نحو الكمين واستل سلاحه قرب مجمع الجنود وقال: حان الوقت الآن ..

نشدنا الأرض في حبها للجدود  نابعة

وقلوبنا في أثيرها للأفق بما سرت به واجد

سنذكر العودة وإن طالت بنا بالـبعد سائبة

والروح في اديمها قد غَلَت والرخص لها سائد

سنرجع مهما افترت به علينا الوان السبايا

والقرب في حلوله كالقمر في السماء عائد

 حينها دبت أصوات انفجارات عدة ، ثم تبعتها زخات رشاش مولع ، انجذبتْ عندها أسماع الناس في قريته نحو المذياع لتعرف الخبر ..

جنودٌ صرعي ، بين قتيل وجريح ، والفاعل فلسطيني مجهول ، يحمل في يمينه السلاح ، وفي نحره مفتاح قديم ، وفي الأخرى كتاب عزيز، دخل الأرض كما تمناها الجدُّ ، ولكنه ما مكث

فيها الا وقت قصير ، حقق المراد وتنفس عطرها الفواح ، واستراح في عبيرها المِلَاح ، ثم أرتقت فيها الروح وانتقلت إلي جوار ربها واستراح جسد الثائر .

 

البث المباشر