بقلم: رشا فرحات
مكسور الخاطر..ذليل بلا عفة.. أشعثاً اغبرا، يحمل بيده اليمنى لفافة من مخدر، ويفرد يده اليسرى في وجه المارة، متوسلاً إليهم بأن يضعوا فيها شيئا من مال يقتات به بقية يومه، يسدل الليل ستائره مسرعاً، دون جدوى، ودون قوت ، تماماً كالليلة السابقة، على الرغم من انه يوم الخميس، وهو في نهاية الأسبوع يجمع" غلة" لا بأس بها، فيعود إلى أصحابه محملاً بشيء "يعمر الرأس"، كما يقول..
يعود أدراجه إلى وكر اتخذه مع أصدقاء صغار في مثل سنه، ليكون ملاذاً للياليهم الطويلة الباردة شتاء والمتقدة حرارة صيفا. هو أكبرهم، ويدير حياتهم كقائد حقيقي، فيوزعهم كل يوم إلى فرق متساوية فينطلقون ويبحثون عن رزقهم من سؤال المارة وزيارة بعض البيوت الميسورة في قلب المدينة.
يعدهم كل ليلة ليتأكد من اكتمالهم، وبأن عددهم لم ينقص فرداً، فبين الفنية والأخرى ينقص احدهم بموت أثر جرعة مخدر أو خطف، أو قتل على سبيل سرقة عضو من أعضاءه، هكذا هم ..وقد اعتادوا أن يكونوا كذلك، واعتاد هو أن يكون واحدا منهم.
يعرج أثناء عودته على وكر قريب ليشتري لفافة أخرى، يجره صاحب الأمس هذا ويطرده خارج وكره، ثم يذكره بأن ديونه قد ارتفعت، وسيصعب عليه سدادها، ومن يحب أن يلاحق" مزاجه" فليصبح رجلا ويوفر المال ثمنا له وإلا فلا " مزاج" لك عندي.
يكمل طريقه عائدا خائبا خجلا من أصدقائه المنتظرين للفافته أكثر من انتظارهم للطعام..
بقدمين متعبتين، وجسد نحيل، ووجه يظهر من بقعه السوداء وشحوبه حاجته الملحة لغذاء مكتمل، وعلاج فوري من أثار الإدمان، هو يعلم أن من هم في مثل سنه لن يطيلوا الحياة كثيراً، فالإدمان لا يقوى عليه البالغون حتى يقوى عليه هو وأصحابه الصغار، وهو لا يعلم على من سيكون الدور هذه المرة، فقبل ثلاثة أشهر كانوا ثمانية .. وفي الشهر الفائت أصبحوا سبعة بعد موت محمد.
رمي محمد في قاع النهر بعد أن اكتشفوه ميتا مبقور البطن ومتعفنا في احدى الخرابات القديمة، هو صديق طفولته، هو من شاركه أحلامه وأقداره، هو من تفتحت عيناه عليه، يقاسمه ذات الأقدار، وذات الخيبات، وذات الحسرات.. ولكنه لم يقاسمه ميتته تلك.
يتابع سيره، يتأمل نجوماً تلمع في السماء، يعدها فهو لا يعرف من العلم والمعرفة سوى عد الأرقام. القمر مضيء أيضاً..فيضيء طريقه على غير عادته، فضل أن يحمل بعضاً من الجبن والخبز ببعض القطع النقدية القابعة وحيدة في جيبه، على ألا يعود أدراجه خالي اليدين لأولئك الرفاق، ولعلها أفضل من تلك اللفافة اللعينة، بدأت الآلام تزداد في قدميه معلنة الصعود إلى أعلى جسده، هي تلك أعراض الألم، إذا ما شعر انه بحاجة لأي مخدر.
ضحك..ألماً..ثم ضحك...وتابع سيره.. كعادته حينما يتألم يزداد ضحكاً..بدأ يقطع قليلاً من الخبز ويحشوه في فمه، مر طعمه رغم الجوع الذي يفرك في أحشائه منذ الصباح، وصورة معكوسة في عقله الصغير لطفل يرتدي هنداماً جميلاً ويمسك بيد والده ذاهبا إلى مدرسته...
ثم يسأل نفسه ذات السؤال المعتاد..ترى كيف هو والده، وهل فكر في لحظة واحدة بحجم خطأه قبل أن يقدم عليه، ثم يعقبه بسؤاله الأخر، لماذا يجب أن ادفع أنا ثمن غلطة أب لا اعرفه ؟؟
ما زال صوته الضاحك مرتفعاً... يدخل إلى وكر الطفولة المنتظرين. وجوههم مكلومة..محدقة به..مرتعبة..منتظرة. ينظر إليهم نظرته البلهاء مستفسراً..فيشيرون إلى جثة صديق آخر ملقاة في آخر الوكر.
يلتزم الصمت ويشير إليهم دون أن يهتم بمعرفة السبب. ويطلب منهم إلقاءها في ذات النهر..ثم يعاود عد الأرواح الباقية...
لقد أصبحوا ستة فقط ...