في ميدان "فلسطين" وسط مدينة غزة، وفي القلب من أكثر الأسواق شعبية، يتوسّط نصب تذكاري لقبضة تعانق السماء وتشطر قلب مدرعة حربية، تمسك بثلاث قلائد تعود لجنود إسرائيليين أسرتهم المقاومة الفلسطينية أثناء عدوان 2014.
أقامت كتائب القسام، الجناح المسلّح لحركة حماس، هذا النصب في عام 2015، أي بعد عام من المعارك الضارية، وتشير إحدى القلائد إلى اسم الجندي الإسرائيلي "شاؤول أرون"، بينما تحمل البقية علامات استفهام.
قلادة الجندي التي تحمل اسمه ورقمه العسكري، أصبحت الوثيقة التي تؤكد مصداقية الأسر، رغم أن الجيش الإسرائيلي ليس بحاجة إلى تأكيد بأن طابور الجند غير مكتمل، بينما احتاجت المقاومة أن تصيبه بالخيبة.
ملف الجنود الأسرى بيد المقاومة تلفّه السرية الشديدة منذ ست سنوات، فشلت خلالها كل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في العثور على طرف خيط يقودها إليهم، وهو تكرار لفشل سابق في صفقة الجندي "جلعاد شاليط"، التي توافق ذكراها التاسعة 18 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، وهي الصفقة التي أحدثت تغييرات جذرية كبيرة في بُنية وهيكلة عمل الجيش الإسرائيلي، ومعه أيضا المقاومة الفلسطينية.
الثمن الكبير للصفقة ومعه السلوك التفاوضي للمقاومة القائم على مفهوم المواجهة كمبدأ، أزال ما كان سابقا من تردد بشأن شن عمليات عسكرية برية في قطاع غزة إلى مستوى تطور فيه التقدير من تردد إلى هاجس!
التقديرات العسكرية في إسرائيل كانت تشير إلى أن وقف صواريخ المقاومة لا يتم بدون شن عملية عسكرية برية واسعة في عمق قطاع غزة. أصبح هذا التقدير شيئا من الماضي ولم يعد تفكيرا منضبطا، بعدما وجدت فيه المقاومة فرصة لصيد الجنود ومبادلتهم.
هذه الخلاصة فرضت نفسها على الخطة العسكرية للجيش الإسرائيلي 2020-2024، التي أعدّها رئيس هيئة الأركان "أفيف كوخافي"، ويطلق عليها "خطة تنوفا"، وبالعربية تعني "دفْع"، لاءم خلالها الجيش توجهاته في إطار هذا التحدّي القتالي الجديد وبيئة التهديدات في ما يخصّ الجبهة الجنوبية، وخوض الحروب غير المتجانسة.
تهدف الخطة في الأساس إلى جعل الجيش أكثر تكنولوجية وأشدّ فتكا، وتعتمد على إدخال تغييرات في أساليب الهجوم والدفاع. لكن ما يهمنا هو أن الخطة تنحو إلى عدم الاستثمار الزائد في القوة البشرية للجيش الإسرائيلي، بل إلى الاعتماد على التكنولوجيا الزائدة في حروبه.
وهذا ينسجم مع رؤية نتنياهو التي تركز في العقد القادم على "السايبر" وسلاح الجو والدفاع الجوي.
يصبح تكتيك المقاومة في أسر الجنود إذن واحدا من الأسباب المُلحّة التي اضطرت الجيش الإسرائيلي إلى تقليص الحاجة إلى القوة البشرية، حتى لجأت صحيفة هآرتس العبرية إلى القول: "إن ذراع البر في جيشنا محاصر بمخططات قديمة على الرّف، لا يطلب أحد تطبيقها في غزة". لقد أوجدت الخبرة والإعداد في المقاومة الفلسطينية قدرة الأعوام على تبديل تضاريس الجبال.
هذه القدرة كتبت روايات الهزيمة، ومنها ما نقلته وسائل إعلام عبرية عن جندي إسرائيلي جريح عائد من معارك سابقة في غزة قوله إنه "قضى ليلة مرعبة على حدود غزة؛ لأن مقاتلي حماس لا يخوضون قتالا مستمرا أمام الجنود، بل يخرجون للقتال عند تقدم القوات".
واكبت المقاومة هذه التغييرات وراعت الأثمان التي يجلبها صيد الجنود، وأنشأت في العام 2006 "وحدة الظل" الأمنية السريّة؛ بهدف تأمين الجنود الأسرى، وإبعادهم عن عيون الأمن الإسرائيلي، وقد أصبحت واحدة من أهم الوحدات العاملة في كتائب القسام.
وأسندت المقاومة إليها "وحدات النخبة" وهي من أفضل الوحدات القتالية في القسام وأكثرها تدريبا، وتكلّف بمهام القتال خلف خطوط العدو، واقتحام الثكنات العسكرية للقوات الإسرائيلية القريبة من حدود غزة، إلى جانب العديد من الوحدات القتالية الجديدة مثل "أبابيل" والكوماندوز البحري وغيرها، مما يشير إلى انتقال المقاومة من استراتيجية الدفاع إلى المبادرة بالهجوم، وعززت لدى أفرادها هواية "صيد القلائد"، حتى باتت تتناقل إلينا همسا روايات التمرّد على قرارات الانسحاب في الخطوط المتقدّمة قبل نسف الأبواب الخلفية للمدرعات الإسرائيلية وقتل من فيها أو أسرهم "فما في الشجاعة حتف الشجاع".
لقد أسست صفقة وفاء الأحرار" لكل شيء، لم تكن صفقة بمفهوم الصفقة، بل تفاوضا بمفهوم المواجهة، عملت فيه قيادة المقاومة بمبدأ "ما هو لنا فهو لنا". ووجدت فيها كل عوامل التفاوض: الإيمان والقيم وتكافؤ القوة، والدافعية، والاحتفاظ بالسرية والغموض لأطول فترة زمنية.
لم تكن الصفقة مجرد تنظير، بل تجربة نضالية كبيرة وثرية وعميقة، أو ما سمّتها الصحافة العبرية "ليست صفقة.. بل استسلام". جددت فيها المقاومة شبابها وعقولها، وأعادت تنظيم عناصرها بصفوف الجند ورأس القيادة "حتى خلقت هذه الصفقة المشكلة الكبيرة التي تواجهها إسرائيل حاليا" بقول المحلل العسكري الإسرائيلي "آفي يسخاروف".
تسع سنوات مرّت لم تفقد فيه المقاومة حماسها وظلّت عند وعدها للأسرى، وامتلكت من حينه السجون الإسرائيلية، وانطلقت بفرسانها وإيمانها بأن السجن الذي يُفتح.. لن يُقفل أبدًا.
هواية صيد القلائد
بقلم/ أحمد الكومي