"وأنت دون أن ندري صرت أسيرا قد تغيب عنا عقودا، قد أكبر وأنت بعيد، وقد تصبح جدا وأنت بعيد، وقد يفتح السجن بابه دون أن ندري أيضا يا والدي".
زاد ارتباطنا بالله أكثر، وايماننا به أكثر، وصرنا ندعو لك كل يوم ورؤوسنا على الوسادة يا والدي، كن قويا.. ولا تخف، قد نسكن خيمة، قد نسكن في غرفة، وقد ننام بلا طعام، لكننا أعزاء يا والدي لا تقرأ الاخبار ولا تهتم لما يحدث خارج أسوار زنزانتك، وارم حملك على رب الأرباب، ولا تحزن، إن الله معنا".
هذا جزء من رسالة كتبتها جنى ابنة الأسير خليل دويكات، الذي خرج ذات صباح من صباحات أغسطس الحارة ليبحث عن رزق، وهو يخبئ في جيوبه وعدين، واحدا لجنى بأن يأتي لها بدمية تحلم باقتنائها، ووعدا آخر لشقيقتها ليان بأن يشتري لها مجموعة من القصص.
لم يعد خليل دويكات لمنزله ذلك اليوم، كان ينقب في بقايا الحياة عن عيشة كريمة، كعامل بناء باليومية، يومية تعطيه وبناته الخمسة وزوجته جزءا من سعادة مبتورة ومغسولة بعرق الجبين، ولكنه لم يعد.
اقتحام عالق في ذهن الطفلة جنى التي لم تتجاوز الثمانية أعوام للبيت الذي كان هادئا بالأمس، ينعم بحياة تملأها سكينة الأسرة، وإذا به يتحول فجأة إلى ثكنة للجنود، يصعدون الأدراج، ويتمركزون، ويقيسون النوافذ وأطوال الجدران، ويعيثون بالأشجار التي زرعتها ربة البيت، يدوسون أوراقها الخضراء ببساطيرهم، ويرعبون الفتيات الخمسة، دون توضيح كاف أو أسباب مقنعة.
وفجأة، ينتشر الخبر "بابا أصبح أسيرا" بابا متهم بعملية طعن!!
ثم غيبته السجون دون إذن مسبق، واعتقل أثناء عمله في الداخل المحتل يوم 26 أغسطس، وكانت اللائحة حاضرة، تهم طويلة بدأت بتنفيذ عملية طعن وقعت في نفس اليوم وأسفرت عن مقتل حاخام صهيوني.
ولم تثبت أي من التهم بعد، ولم يصدر حكم يحسم القضية المعلقة، ولكن الاحتلال يعتبرها فرصة لمصادرة الأرض، وتقييد الحياة بشظف وقسوة ربما لا تحتملها أم وحيدة مع خمس بنات.
سارعت الجرافات فجر اليوم لهدم منزل الأسير، وطردت الأم وبناتها في جوف الليل حينما اقتحمت منزلهم في قرية روجيب شرق نابلس.
وكان أهل القرية شهود عيان على عملية التشفي المعتادة، بل قاوم كل منهم بما يستطيع، فأصيب شاب برصاصة بينما سقط آخرون مختنقين بسبب قنابل الغاز.
ولكن الصورة من بعيد أصغر كثيرا من الواقع، فقد وصف رئيس مجلس قروي روجيب، مفيد دويكات المشهد قائلا إن قوة كبيرة من جيش الاحتلال اقتحمت القرية، وهدمت منزل الأسير خليل دويكات المكون من طابقين، ومساحته تصل الى 170 مترا.
وقد كانت العائلة تترقب، وتعلم أن الجرافات في طريقها إلى المنزل، وكان الحديث يدور حول هدمه غرفة الأسير الخاصة فقط، ولكنها فوجئت بأن القرار وقت التنفيذ قد شمل البيت كله.
وقالت زوجة الأسير نجوى دويكات في مقابلة سابقة إنها تستنكر كل الحكاية من بدايتها، فلا زالت لا تستوعب حتى فكرة اعتقال زوجها "أنا انتظر أن يقولوا لي إن زوجي بريء، ولم انتظر أن يقولوا لي أن بيتي سيهدم".
ولكن البيت هدم، وما زالت صوره عالقة في ذهن الأسرة التي تعيش فيه منذ أكثر من عشرين عاما، ولا زالت ديون بنائه تثقل كاهل الأسرة التي وجدت نفسها في ليلة وضحاها خارج جدرانه.
أم وخمس بنات، بدون بيت أو أب أو ذكريات، بعد أن حول الاحتلال كل شيء إلى رماد.
زوجة الأسير دويكات: "كنت أنتظر براءة زوجي فهدم الاحتلال بيتي"
غزة-رشا فرحات