اتخيل قهقهات مجلجلة للقادة الإسرائيليين وهم يرون الاحتفال الفلسطيني الرسمي برسالة من موظف إسرائيلي من الدرجة العاشرة، وتصويره تلك الرسالة بأنها انتصار وإنجاز عظيم. رد الفعل الفلسطيني يتصف برعونة مُذهلة ويرسل للإسرائيليين رسالة مقابلة تقول إن سقف توقعاتنا منخفض جدا ونفرح ونرقص لأي فُتات تمنحوننا إياه. وان مجرد رسالة ليس فيها مضمون حقيقي ولا التزام قانوني ومجرد تلاعب بكلمات ليست صادرة عن أي مستوى سياسي قيادي في إسرائيل، تجعلنا نطير فرحا. من منظور المفاوضات نفسها والذي تستعد السلطة للعودة إليه: هل هناك أسلوب رد او سياسة او استراتيجية أسوأ من الرد على رسالة المنسق يمكن ان تُضعف موقف المفاوض الفلسطيني الضعيف أصلا؟ كيف يمكن لأي مفاوض فلسطيني ان يُطالب بالقدس الشرقية وحق العودة وتفكيك المستوطنات، اذا كان يفرح برسالة ليس فيها أي التزام، سوى نية الافراج عن أموال فلسطينية تحتجزها إسرائيل؟ الغريب ان هذا يحدث بعد تجربة تزيد عن ربع قرن من المفاوضات، وكأن هذا الدرس الابجدي التفاوضي عصي عن الفهم وبالغ التعقيد ولا يمكن استيعابه فلسطينيا. الأسلوب والسياسة والاستراتيجية الإسرائيلية في الحرب والسلم تقوم على العكس، فهي تواصل اعتبار ان كل ما قُدم لها ليس كافيا، ولم نرها يوما ترقص فرحاً لما حصلته من الطرف الفلسطيني او الأطراف العربية. كل ما تحصل عليه، ترمي عيونها وراءه وتطلب المزيد.
على ذلك يُدان هذا الإخراج الطفولي والمُدهش لقرار “إعادة المياه الى مجاريها” مع إسرائيل، والتباهي بالرسالة العظيمة تلك بالطريقة التي تمت. بتدقيق إضافي، يدرك أي قارئ لنص الرسالة القصير انه لا يتضمن كل البطولات التي خرج بها علينا خطاب السلطة وممثلوها، وكل ما يتضمنه لا يتعدى إشارة غامضة الى ان الاتفاقات التي وقعت بين الطرفين هي الاطار العام الذي ينظم العلاقة بينهما. ما الذي يعنيه هذا، وكيف يمكن ان يفسر بأنه “التزام” إسرائيل بالاتفاقات وهزيمة لصفقة القرن، وإيقاف للضم، وكل هذا التضخيم الفارغ. وحتى تكتمل التراجيديا السوداء حدث وفي نفس اليوم الذي بشرتنا فيه السلطة بهذا الانتصار الكبير ان واصلت الحكومة الإسرائيلية خطواتها في تمرير مشروع الوحدات الاستعمارية الجديدة شمال القدس، شعفاط، إضافة الى 1200 وحدة استيطانية جنوب القدس (جعفات هاماتوس). لماذا لم يقل لنا المسؤولون ومن خلال خطابهم الظافري بالرسالة إن كانت إسرائيل سوف تلغي هذا المشروعات مثلا، او تجمدها على اقل القليل؟
عملياً وبكل هدوء ممكن، لنا ان نقول ان الخطاب الرسمي الذي ترجم رسالة المنسق الى انجاز كبير فيه احتقار أكبر للشعب ولذكاء الناس ويفتقر الى الحد الأدنى من احترام عقولهم. الرأي العام أصبح أكثر وعيا من هذه الخطابات التي تنسخ ما عُرف ممن ممارسات أنظمة عربية استبدادية كانت تحاول قلب الهزائم الى انتصارات عبر الفهلوة اللغوية والبلاغية وإعلاء النبرة الخطابية. أي فلسطيني قرأ رسالة المنسق العتيدة أدرك ان هدف السلطة وسقف طموحاتها من هذه الرسالة يحوم حول الحصول على أموال الضرائب، … ونقطة آخر السطر. لماذا لا تحترم السلطة ذاتها وشعبها وتقول بأن هذا هو الهدف وتقنع الناس بأنه هدف مهم مثلا بسبب الضائقة المالية التي تمر بها؟ لنتخيل ان السلطة أصدرت البيان القصير التالي، او شيئا قريبا منه، للرأي العام بدل حملة التبشير بالإنجاز والنصر الكبير:
“في ظل الخيارات السياسية الصعبة والضاغطة على شعبنا الفلسطيني والحصار الإقليمي والدولي على موارد الدعم المالي بما جفف مداخيل السلطة الوطنية وانعكس بالتالي على امكانياتها في دفع الرواتب والحفاظ على الخدمات الأساسية لشعبنا، فقد اضطرت السلطة الوطنية لإعادة التواصل مع الجهات الإسرائيلية بغية الحصول على الأموال الفلسطينية المُحتجزة لدى إسرائيل، وبالتالي تسهيل إمكانية الانفاق الإداري والمالي. ولا يعني هذا القرار أي عودة الى طاولة المفاوضات او القبول بالأمر الواقع، او تعطيل جهود المصالحة الوطنية، وضرورة التوافق الوطني. نعلم ان خياراتنا ضيقة ولكننا بوعي شعبنا وتفهمه لصعوبة الخيارات فإننا سنواصل التشبث بحقوقنا الوطنية والعمل على انتزاعها”.
لو صدر ما هو قريب من هذا البيان، او تم التصريح بشيء مماثل، لكان فيه مصارحة ومكاشفة مع الناس والرأي العام واحترم عقولهم ولحاز في اقل القليل على الاحترام حتى من قبل من الرافضين للقرار وللسلطة برمتها. إذا كنا نتفاخر دوما بأننا من أكثر شعوب العالم تعلما وتعليما وثقافة واطلاعاً، فكيف يمكن للسلطة ان تتعامل مع رأي عام كهذا بنهج الاستسخاف والاستغباء؟ على هذا النهج ان يتوقف واصحابه ان يفكروا ألف مرة قبل ان يلوكوا الكلام الفارغ في مقابلات تلفزيونية دعائية ليس فيها الحد الأدنى حتى من المهارة الإعلامية في أداء السائل او المسؤول. ما يجره علينا هذا الخطاب هو مواصلة خداع النفس بتحقيق الانتصارات، بينما قهقهات عدونا حول انتصاراتنا تصل عنان السماء.