قائد الطوفان قائد الطوفان

قصة قصيرة بعنوان "هي"..

بقلم/ وائل المبحوح

في سكون الليل، وبعد أن اطمأنت على أولادها الثلاثة، تناولوا طعامهم وأدوا واجباتهم المدرسية ثم سكنوا إلى فراشهم بعد أن ألقوا التحية المعهودة على تلك الصورة الجدارية التي تزين غرفة نومهم. خرجت.. خرجت ودموعها تترقرق في عينيها، بالكاد حملتها أقدامها، حركتها ببطء وسارت بخطوات متثاقلة في شوارع المخيم.

شقت طريقها عبر الأزقة والشوارع والحارات، إلى أماكن حفرتها الذاكرة، وجالت بها العين كأنها تراها للمرة الأولى أو أنها لن تراها من جديد، هذا بيت الأرملة أم غسان، وهذا بيت أبناء الشهيد أحمد، وهذا بيت العجوز الطيبة أم هلال، كأنها تراه ماثلاً أمامها يحمل الخير إلى كل هذه البيوت في عتمة الليل، وحده يمشي ووحده يحمل المئونة ووحده يتمتم شكراً لله.

لا زالت تذكر كيف كانت تنتظره كل ليلة، تدعو الله أن يعود إليها سالماً، كانت تنتظر وتنتظر وما أن تسمع صوت المؤذن أبي محمود ينادي لصلاة الفجر، حتى تسمع طرقاته الخفيفة المعهودة على الباب فتهب مسرعة لتفتح له وهي تلهج بالدعاء وتحمد الله على سلامته، وما أن يراها حتى يبتسم ويداعبها كما كل يوم، ألا زلت تنتظرين سماع الناعي؟ ثم يضحك بملء فيه، فتبدو غاضبة وتشيح بوجهها عنه حتى يلحق بها ويراضيها، فلا ترضى حتى يحكي لها كيف كانت ليلته، فيروي لها جزءاً من الحكاية، ذلك الجزء الذي كان يثير اهتمامها عن الفقراء والأيتام والأرامل وكيف ينتظرون مجيئه كل يوم حاملاً لهم الخير الذي تجود به نفوس أهل الخير من أهل المخيم.

لم يكن أحمد زوجاً فقط، كان أخاً وأباً وصديقاً، كان يملأ البيت في النهار حيوية ونشاطاً، يحمل براءً تارة ويطوف به غرف البيت، ويداعب يمنى تارة أخرى فيخطف حقيبة روضتها ليرى أين تخبئ الشوكولاتة التي تحبها، ويسجل في مرمى محمد هدفاً ثم يهرب من نظرات عينيه الغاضبة، فهو يصر دائماً على الفوز على أبيه بأي شكل من الأشكال، هكذا هو كل يوم في النهار، لكنه في الليل يبدأ سرد تلك الحكاية التي تسمعها منه كل صباح، حكايات الأرامل والأيتام والشيوخ، حكايات الصغار الذين لا ينامون حتى يدخل إليهم ومعه ما يحبون من الحلوى والطعام والشراب، ثم يأوي إلى مكان رباطه حتى قبيل آذان الفجر.

هي لا زالت تذكر ذلك اليوم الذي سمعت فيه صوت المؤذن أبي محمود فهبت مسرعة إلى الباب لتفتحه كما كل يوم، انتظرت لتسمع طرقاته الخفيفة المعهودة، أنصتت جيداً لكنها لم تسمع، همت بفتح الباب فلعله يقف وراءه منتظراً، لكنها تذكرت عهدها معه ألا تفتح الباب إلا بعد سماع الطرقات فانتظرت، وانتظرت، وفجأة سمعت رنين الهاتف، أغلقت عينيها، إنها لا تريد أن تسمع، هي في انتظار حبيبها، لكن شيئاً ما ناداها لترد، فكان هناك من يقول إن أحمد لن يعود.

عادت إلى الوراء قليلاً، وقفت أمام مرآتها، تزينت ولبست أجمل ثيابها التي كان يحب أن يراها فيها، ترددت، غلبتها الدموع ثم تمنطقت، ألقت نظرة تجاه تلك الصورة، اتجهت إليها، كادت أن تنزعها من إطارها، لكنها توقفت وسألت نفسها لم ذلك؟، أوليست محفورة في قلبها وملء عينيها؟.

وانطلقت رغم العتمة الموحشة التي سادت تلك الليلية، إلى ذلك المكان وصلت، لم تتمالك نفسها هنا، تهاوت، ألقت بنفسها على صدره، تنهدت، ارتعشت وبكت.

لا تدري كم من الوقت مضى وهي على هذا الحال لكن صوت المؤذن هزها فانتفضت، نظرت في يدها متلهفة، هل حان الوقت، هل جاء موعد اللقاء، ألقت ما في يدها وانطلقت.

مسرعة هذه المرة خطواتها، نبضات قلبها تنبض بعنف، جسدها تشعر وكأنه يطير، روحها تحلق في السماء، لم تلتفت إلى ذلك الصوت الأجش الذي يأمرها بالتوقف، ولم تسمع ذلك الصوت الذي يأمرها بالعودة، هي لن تتوقف، لن تعود لن تعود لن تعود، أسرعت وأسرعت وأسرعت ثم دوى الانفجار.

ما إن بدا ضوء النهار حتى اتضحت الصورة، حملوها إلى هناك حيث كان ينتظرها، وما إن بدؤوا في تجهيز مكانها بجواره حتى التقط بكرها براء ما كانت ألقته من يدها، وقرأ:

أقسم أن أعود، عما قليل سأعود

البث المباشر