بالأمس بعد صلاة العشاء استشهد محمود كميل، عمره سبعة عشر، هذا يعني أنه لم ينه مدرسته بعد، ومن المفترض أن ينام ليلته وهو يرسم حلما كبيرا، عله يحققه بعد التخرج من الثانوية والالتحاق بالجامعة.
لكن، بما أنك ابن فلسطين، وابن القدس، وترى كل يوم ما يفعله المحتل، وتسمع كل يوم أصواته، وتطرد كل يوم ألف طردة مهينة من جنوده، ثم ترى ما يفعله التطبيع، كان لزاما لوجهتك أن تتغير وأن تأخذك خطواتك إلى باب حطة، على بوابة القدس، ليكون الموت شريفا جميلا تلفه نسائم الشجاعة والقوة.
ارتقى محمود كميل ابن السابعة عشر، وبقي حذاؤه فوق بصمة قدم المطبعين الذين مروا من هنا، فوق أحلامه وأحلام جيله الشاب، ليوقعوا تخاذلا عربيا مكررا للمرة الألف.
وبسلاح من نوع (كارلو) قديم قدم القضية، دخل محمود إلى باحات الأقصى، وأطلق النار على الجندي الواقف، قبل أن يرتقي بسلاح الجندي حديث الطراز، المورد من تلك الدول التي تدعم الاحتلال، بينما ليس للمقاومة في الضفة داعم، كل ما لديها، قضية صادقة، وثقة بالنصر.
ولك أن تتخيل ما نشره الاحتلال، يمكنك أن تقول إنه نصر للاحتلال، وشماتة، فسلاح محمود لم يكن صالحا، ورشاشه البدائي كان معطلا، فجرحت الرصاصة الجندي ولم تقتله، وتملص الجندي، وذهب للعلاج في مستشفيات الحكومة التي تتلقى دعما لجنودها المحتلين لحيوات شبابنا، والذين قتلوا محمود ألف مرة قبل موتته.
ثم تغنت القناة الإسرائيلية الثانية بالرشاش القديم الذي جعل الجندي المحتل يقتل الشاب قتلة رحيمة، تعاطفا مع سلاحه المعطل، ولم تذكر الإذاعة عشرات الجنود الفارين من سلاح الشاب الذي يصنفه العالم طفلا.. طفل فلسطيني، يركض وراء عشرات من الجنود الجبناء، فيختبؤون ويقتلونه كعادتهم من وراء الجدار.
أم محمود لم تودع جثمانه، ولم تر من ابنها سوى حذاء ملقى على عتبة باب حطة، لأن جثمانه صودر فورا من الاحتلال لأجل غير مسمى.
وحينما تتابع محمود، ترى احتراقه من الداخل قبل موته، عبر عنه بمنشور على صفحته كتب فيه: "قُتل ابن عائلتي على يد ابن عائلة أخرى"؛ فغضبنا واحرقنا بيوتهم ومحلاتهم وسياراتهم، واطلقنا آلاف الرصاصات عليهم، وتوعدنا بقتل افضل شخصٍ في عائلتهم، وتوعدنا أن نقوم بترحيلهم وتشريدهم والرد بأعظم من ذلك.
" قُتل ابن عائلتي على يّد جندي من قوات الاحتلال"، فهتفنا بأعلى أصواتنا "بالروح بالدم نفديك يا شهيد"، "يا شهيد ارتاح ارتاح واحنا نواصل الكفاح"، ثم عدنا الي بيوتنا سالمين..." اذلة على المؤمنين اعزةً على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم '...
كلمات محمود كميل وفعله كشف كثيرا من الحقائق، وخاصة بعد اعتقال آخر من الداخل المحتل لاعتقاد (إسرائيل) شراكته في العملية.
هذا الفعل البسيط المقاوم، رغم التطبيع، ورغم التنسيق الأمني، ورغم روح محمود التي رحلت في ليلة باردة وجثمانه الذي صودر إلى ثلاجة الأسر مع تسعة وستين أسيرا شهيدا محتجزا في ثلاجة الموتى، ورغم رحيله بدون قبلة أم ووداع يليق به.
إلا أن ما فعله الشهيد يثبت بأنه وتحت الأرض في الضفة الغربية هناك رجال لا يزال يسكنهم اليقين، يحاولون محاولة ليست الأخيرة، لتصنيع رشاش بدائي الصنع، يرعب (إسرائيل).