ازدهر فن توشيح النصوص بواسطة الرسوم التوضيحية المصغرة "المنمنمات" في العهود التركية المختلفة، واعتبر أحد أهم فروع الفن الإسلامي الذي عاش عصورا عديدة من النهضة في ظل الدول التركية القديمة.
فما المنمنمات، وكيف نشأت وازدهرت في العصور التركية، ولماذا استخدمها الأتراك القدماء، ثم كيف حافظت على مكانتها في التراث التركي ونجت من طوفان تقنيات العصر الحديث؟
استخدم سلاطين السلاجقة والعثمانيين المنمنمات بدوافع تمجيد الذات لتخليد ذكرهم ولتصوير إنجازاتهم وانتصاراتهم وأبرز تحولات الدولة في عهد كل منهم، كما استخدموها كوثائق تاريخية تحفظ مناسباتهم كاحتفالات التنصيب وختان ورثة العرش وحفلات الزفاف.
أما رجالات الدولة والتجار والأثرياء فوظّفوا المنمنمات لغايات جمالية ولتزيين القصور والضيع التي يملكونها بطريقة تظهر سطوتهم.
وغالبا ما تخلو رسوم المنمنمات من الأطر والخطوط المستقيمة التي ترسم الحدود لأن هذا الفن يقوم على نقل الرواية الكاملة مع ذكر أدق تفاصيلها التي تسمح المنمنمة بسردها عبر حجوم تتناسب مع أهمية الحدث والشخصية المرتبطة به.
وتتربع صور المنمنمات في الكتب والوثائق الرسمية القديمة بطريقة تشبه الرسوم التوضيحية في الرسائل العلمية والدراسات البحثية، وتعوض الصور المرفقة في الكتب الملونة وكأنها رسوم الإنفوغراف في عصرنا الحديث.
ورغم اختفاء عصور السلاطين الذين تعهدوها كفنٍّ تقليدي، فإن هناك من الرسامين الأتراك قلة ما زالت تتفنن في صناعة المنمنمات بجهود فردية خلقت لها موطئ قدم أمام طوفان فنون الحداثة.
ومؤخرا، أدرجت منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، فنّ "المنمنمات" التركي ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي حول العالم.
مدارس متنوعة
تعرّف موسوعات الفنون التركية المنمنمات بأنها فن من الرسم عالي الدقة لا يعتمد في إظهار الصورة على الضوء ولا الظل، وترى بعض المراجع أن أصل الكلمة يعود إلى اللاتينية (Miniare) التي تشير إلى اللوحة المرسومة باللون الأحمر .
ويقول بعض الباحثين في تاريخ الفنون التركية، إن المنمنمات تعكس روح الفن الإسلامي الذي يمزج يين ثقافات العرب والصين وفارس وبيزنطة والحضارة اليونانية الغابرة، لكنها ازدهرت على وجه التحديد في ظل الإمبراطورية الإيغورية التي بلغت أوج عظمتها في بلاد الأناضول بين القرنين السابع والتاسع الميلاديين.
وإذا كانت الطبيعة الصوتية لكلمة المنمنمات توحي بأنها ذات أصل عربي، فإن الأكاديمية والباحثة بمعهد الفنون الجميلة بإسطنبول غوكشة سونميز تؤكد أنه لا توجد أدلة تاريخية على ذلك، موضحة أن الكلمة موجودة في كل اللغات التي تعامل أصحابها مع هذا الفن.
وتشير سونميز في حديثها للجزيرة نت إلى أن الأتراك يطلقون على هذا الفن صيغة الجمع "مينياتورلير" (Minyatürler) وهي التسمية ذاتها في الفارسية "مينياتور" والفرنسية (Miniature)، الأمر الذي يشير إلى التقاء التسمية في الجذر اللاتيني ذاته.
عرف الأتراك المنمنمات في عصور مبكرة، فقد شكلت جزءا من طقوس العبادة في الديانة المانية التي اعتنقوها قبل الإسلام، ثم عاشت عصرها الذهبي مع سلاطين العثمانيين الذين نقلوها للأمصار فظهرت في مصر والشام وبغداد.
وطور هذا الفن مدارسه الخاصة في شمال أفريقيا وآسيا الصغرى والشرق الأوسط وأجزاء من أوروبا خلال الفترة العثمانية، الأمر الذي يفسر ارتباطه بالفن الإسلامي الذي تبناه العثمانيون هوية لتراثهم الجمالي.
وتقول سونميز إن العثمانيين تحديدا وجدوا في المنمنمات فنا ينسجم مع روح الشريعة الإسلامية التي تبيح الرسم والتطريز الجمالي وترفض رسم الوجوه أو نحت التماثيل التي تصور وجوه الشخوص.
وتشير إلى أن المنمنمات ما زالت إلى يومنا الحالي تعكس ثقافة القصور التي كانت تزين جدرانها وتهدى من رجالات الدولة إلى الحكام والسلاطين، حيث تقول سونميز إن صور المنمنمات من أثمن ما ترك العثمانيون خلفهم من فنون.
فن يتمسك بالحياة
كان سلاطين العثمانيين يفضلون استخدام كلمتي "الرسم والتطريز" على استخدام كلمة المنمنمات التي تناقلها الأتراك جيلاً بعد جيل، لتظل رسومها محفوظة على أوراق المراسلات العثمانية في المتاحف ومكتبات المخطوطات الرسمية المنتشرة في تركيا.
وبحسب موقع "بوابة الثقافة التركية" (TKP) فإن الأتراك ركزوا في استخدام المنمنمات على التاريخ الذي صور الحروب والحملات والأعياد بطريقة واقعية على خلاف شعوب أخرى استخدمتها في المجالات العلمية والأدبية المختلفة.
موضوعيا، تتيح المنمنمات للباحثين في العصر الحديث دراسة العادات والتقاليد ونمط الحياة الذي ساد في فترة ما، أما من حيث الشكل فقد أثرت المحتوى البصري للموروث الثقافي والأدبي من العهد العثماني، ووفرت مادة غنية للباحثين في التاريخ والفنون وعلم الاجتماع.
وعلى قلة أعدادهم فإن عددا قليلا من الرسامين والنقاشين في تركيا ما زالوا يمارسون "النمنمة" مثل الفنان تانر ألاكوش المتخصص في هذا الفن والفنانة نيفين يابجي التي تمارس رسم المنمنمات على زهور الأوركيد.
كما يعرض عدد من المتاجر المختصة بالفن والتحف في مدينة إسطنبول لوحات حديثة مرسومة بالمنمنمات التي تعبر عن الحياة العصرية بالرسوم والزخرفات المستوحاة من البيئة المعاصرة، بما فيها من مخرجات حضارية وتكنولوجية واختراعات.
وكانت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) قد أدرجت فن المنمنمات التركية في قائمتها للتراث الثقافي الإنساني غير المادي، وذلك إثر اجتماعاتها الافتراضية في الفترة ما بين 14 و19 ديسمبر/كانون الأول (2020) في العاصمة الفرنسية باريس.
وأعلنت وزارة الخارجية التركية في بيان لها، أن عدد العناصر التركية الثقافية المسجلة في قائمة التراث الإنساني غير المادي لليونسكو وصل إلى 20 عنصرًا، وقالت "تمتد جذور هذا الفن لتاريخنا الغني بالقيم الثقافية، التي سنواصل تعزيزها عبر التعريف بها وحمايتها وإحيائها".
المصدر : الجزيرة