تشير الأبحاث إلى أن زيادة الحد الأدنى للأجور من شأنها أن تساعد على خفض معدلات الانتحار، وهو ما يعمل على تأكيده الصحفي جيسون تشيركيس المقيم في واشنطن، والذي يغطي ملف الصحة العقلية، ويعمل على تأليف كتاب عن الانتحار.
وفي هذا التقرير الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" (New York Times) الأميركية، قال الكاتب جيسون تشيركيس إنه على امتداد العامين الماضيين، كان يتصل كل أسبوع تقريبا بمدير قسم منع الانتحار في نظام الصحة العقلية بالولايات المتحدة، لمراجعة عدد حالات الانتحار.
وراجع الكاتب مع القسم البيانات الديمغرافية للموتى وتشخيصاتهم النفسية وكيفية انتحارهم، إضافة إلى جميع تفاعلاتهم مع نظام الصحة العقلية، بداية من التجارب السريرية ووصولا إلى الملاحظات الأخيرة من جلسات العلاج النهائية.
صدمات طفولة وحرمان اقتصادي
وذكر الكاتب أنه أدرك مع مرور الوقت أن العلامات التشخيصية على الاضطراب "ثنائي القطب" و"الاكتئاب الحاد" لا علاقة لها بفهم الموت عن طريق الانتحار؛ فقد لاحظ تشيركيس أن مشاكل هؤلاء المرضى بدأت في الكثير من الأحيان بصدمات الطفولة، وانتهت بالحرمان الاقتصادي. وأخبرت امرأة -توفيت لاحقا منتحرة- معالِجتَها النفسية أنها اضطرت لبيع مجوهراتها لتغطية نفقاتها المالية، بينما سأل آخر معالِجه عن كيفية الحصول على أريكة لشقته.
في الواقع، لم يكن الكثير من الأشخاص الذين انتحروا بحاجة للرعاية الطبية فحسب، وإنما كانوا يتضورون جوعا بالفعل. وأظهرت الأبحاث أن هناك علاقة بين قدرة الأشخاص على دفع الإيجار كل شهر وصحتهم العقلية.
مخاوف كورونا وأزمة الصحة العقلية
إلى جانب زيادة الحراك الاجتماعي ومعالجة عدم المساواة، يرى الكاتب أن رفع الحد الأدنى للأجور سيسهم بخفض معدل الانتحار في الولايات المتحدة، وقال إن جائحة كوفيد-19 أثارت مخاوف بشأن أزمة الصحة العقلية القادمة؛ لذلك ينبغي مناقشة مسألة الزيادة في الأجور باعتبارها ضرورة اقتصادية وسياسة صحية عقلية مهمة على حد سواء.
وفي كتابهما "موت اليأس ومستقبل الرأسمالية" وجد الزوجان آن كيس وأنغوس ديتون -وهما خبيران اقتصاديان في جامعة برينستون- أن الأشخاص الحاصلين على شهادة الثانوية العامة أو الأقل تعليما لا يكسبون مالا أقل من خريجي الجامعات فحسب، وإنما تُعد فرصهم للزواج والعثور على الدعم في الكنيسة أقل، إضافة لذلك تعد هذه الفئة أكثر عرضة للإبلاغ عن شعورهم بخيبة الأمل بسبب انقلاب حياتهم رأسا على عقب.
رفع الحد الأدنى للأجور
يؤيد الزوجان كيس وديتون رفع الحد الأدنى للأجور إلى 15 دولارا في الساعة، ليكون وسيلة للمساعدة في مكافحة هذا اليأس، وعلى الرغم من أنهما يُقران بأن هذا الأمر قد لا يصلح العزلة الاجتماعية للعاطلين عن العمل أو الآفاق المهنية العامة لمن يحملون شهادات الثانوية فقط، فإن الأجور المرتفعة يمكن أن تساعد أصحاب المداخيل الضعيفة من خلال توفير شبكة أمان أقوى.
وكتب الزوجان أن "فقدان الوظائف الجيدة للأميركيين الأقل تعليما لا يؤذي فقط أولئك المتضررين بشكل مباشر، وإنما يلحق الأذى بالآخرين من خلال تدمير العديد من المجتمعات المحلية وأسلوب الحياة".
وقد لا يتطلب الأمر الكثير من الجهد لكي نبدأ في عكس اتجاه اليأس؛ ففي العام الماضي نشر باحثون في جامعة "إيموري" (Emory) نتائج تشير إلى أنه في حال زادت الولايات المتحدة من الحد الأدنى للأجور بمقدار دولار واحد في الساعة، فقد ينخفض معدل الانتحار بحوالي 6% في صفوف البالغين الحاصلين على شهادة ثانوية أو أقل.
هذا ما كشفته الدراسات
وجدت دراسة صادرة عن المكتب القومي للبحوث الاقتصادية لعام 2019 أن زيادة الحد الأدنى للأجور بنسبة 10% من شأنه أن يخفض حالات الانتحار -التي لم تكن بسبب الأدوية- في صفوف البالغين الذين يكون مستواهم التعليمي محدودا بنسبة 2.7%.
اعلان
وفي دراسة أخرى نُشرت عام 2019، أفاد باحثو جامعة "نورث كارولينا" (North Carolina) -في مدينة "تشابل هيل" بالولايات المتحدة الأميركية- أن زيادة الراتب دولار واحد في الساعة يمكن أن تخفّض حوالي 8 آلاف حالة انتحار من عام 2006 إلى عام 2016.
وقد تكون العلاقة بين رفع الحد الأدنى للأجور وانخفاض حالات الانتحار ناتجة جزئيا عن قلة الأزمات المالية التي تسبب ضغوطا كبيرة. وقال أوسكار خيمينيز سولومون الباحث في معهد الطب النفسي في ولاية نيويورك ومركز الفقر والسياسة الاجتماعية بجامعة "كولومبيا" (Columbia)، إن الأجور المتدنية يمكن أن تؤدي إلى عدم القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية وسداد الديون ووضع الخطط.
وأضاف سولومون "من شأن هذه الظروف أن تجعل الناس يشعرون بأنهم محاصرون تماما، حتى يتملكهم الخزي واليأس، ويشعروا بأنه لا يوجد أمامهم مخرج؛ لذلك يمكن أن تنقذ زيادات الحد الأدنى للأجور أرواح الناس". فضلا عن ذلك، يؤدي تقليل الضغوط المالية على الأسرة إلى تعزيز الصحة العقلية داخل العائلات.
وفي الفترة بين عام 2005 وعام 2010، أجرت الأستاذة المتخصصة في مجال العمل الاجتماعي كارولينا هاوسمان ستابيل مقابلة مع فتيات تتراوح أعمارهن بين 11-18 عاما في مدينة نيويورك كن يتلقين إحاطة صحية نفسية بعد إقدامهن على محاولة الانتحار، وكشف بحثها عن كيفية تأثر الفتيات من العائلات المهاجرة بالضغوط المالية وغياب آبائهن الذين كانوا يعملون في أكثر من وظيفة واحدة.
حياة العمال ذوي الأجور المنخفضة قيمة
ونقل الكاتب ما جاء على لسان الدكتورة هاوسمان ستابيل التي أفادت أن "مسألة عدم المساواة والفقر أدت إلى تقويض رفاهية أسرهن بطريقة أثرت بشكل مباشر على رفاهيتهن وأدت إلى تفكيرهن في الانتحار". وقالت العديد من الفتيات إنهن شعرن كأنهن عبء أو أن مستقبلهن كان محدودا بشكل ميؤوس منه، حتى وإن كن يطمحن إلى تحقيق أهداف أكبر.
غالبا ما تكون الوظائف التي يتقاضى أصحابها أجورا منخفضة بمثابة فرص العمل الوحيدة أو الملاذ الأخير؛ لهذا السبب ينبغي على الكونغرس أن يدرك أن رفع الحد الأدنى للأجور لا يقتصر فقط على منح هؤلاء العمال رواتب أفضل بقليل، بل من الممكن أن يعني ذلك تحسين الصحة العقلية الوطنية وإرسال رسالة واضحة مفادها أن حياة العمال ذوي الأجور المنخفضة قيّمة.
المصدر : نيويورك تايمز