قراءة ..رشا فرحات
تحكي رواية عزازيل الغريبة والفريدة من نوعها تفاصيل غريبة أثارت حفيظة الكنيسة القبطية، دارت في حقبة زمنية قديمة حينما اقتحمت أسرار الرهبان، ووحشيتهم في ممارسة أعمال القمع والقتل ضد كل من يعارض إتباع الكنيسة في ذلك الوقت، وقد أثار الكاتب حفيظة الكنيسة أكثر حينما فرض على القارئ تصديق واقعية الرواية وبأنها حقيقة جاءت في مخطوطات قديمة قام بترجمتها، وسردها في روايته على أنها أحداث واقعية، وقد يصدق كل من قرأها بأنها فعلا أحداث واقعية قد حدثت في تلك الحقبة الزمنية، وإمعانا في الإقناع فقد أرفق الكاتب يوسف زيدان صورا توضح الأماكن التي وجدت فيها المخطوطات، والمكان الذي عاش فيه الراهب هيتا بطل روايته.
وتأتي الرواية على شكل مذكرات شخصية لأحد الرهبان والمسمى "هايتا" الذي عاش في ذلك الوقت حيث مارست فيه الكنيسة عنفا واضطهادا ضد من يخالف تعاليمها الدينية أو يتبع ديانات أخرى، الراهب المصري من صعيد مصر غادر بلاده في الجنوب هرباً من مشاكل أسرية حاصرته ودفعته إلى طريق الرهبنة ودراسة الطب ثم هاجر منها إلى الإسكندرية ليستكمل تعليمه في معالجة المرضى والتزود من العلوم والمعارف الطبية، ثم غادرها هناك بسبب ما رآه من قمع للناس على يد الكنيسة الذي يتجاوز كل أشكال القمع والتعذيب والقتل في الشوارع.
ويأتي اسم عزازيل وهو اسم من أسماء الشيطان الذي يظل واقفا بوسواسه على رأس ذلك الراهب من بداية الرواية حتى نهايتها فيساعده في كل مراحل حياته على ارتكاب الرذائل، ولعل اشد الفصول الإثارة هي تلك اللحظة التي ثار المسيحيون على "هيباتيا" الكاتبة والعالمة والتي كان لها دور بارز في التأثير على حياة الراهب" هايتا" باعتبارها وثنية ضالة ومضللة، والتي عرفها الراهب أثناء مروره لحضور محاضرة لتلك الكاتبة ، حيث يشهد أبشع جريمة ارتكبها المسيحيين حينما قاموا بقتل العالمة "هيباتيا" والتمثيل بجثتها، أمام الماره وهي حادثة ثابتة تاريخياً فعلاً، ولكن الكاتب قد حررها في روايته واستخدمها استخداما مختلفاً ليبرر غضب الراهب هيبا ونقمته على هذا السلوك الدموي والذي أدى إلى مقتل هذه العالمة العظيمة والتي كان قد أعجب بها ، وقرر وهو الذي لا يقر بمبدأ التشدد باسم الدين أن يهرب من مصر متجهاً إلى "أورشليم" , وفي طريقه قام بتعميد نفسه من جديد واختار لنفسه اسم "هيبا" وهو المقطع الأول من اسم تلك العالمة.
ثم تسوقك الرواية بتسلسل إلى حياة متضاربة، بين الرغبة في الحياة، وهي وساوس الشيطان عزازيل التي يمارسها على ذلك الراهب، والرغبة في الرهبنة، حتى تنتهي بفضح الراهب ورذائله المنافية لسياسة الكنيسة حينما يمرض مرضا بالغا ويبدأ بالهذيان متحدثا عن تلك الأمور والتجاوزات الرذيلة التي ارتكبها في حياته، فاضحا أمر رذائله كلها.
في هذه الرواية الكثير من الأحداث والتي لا يمكن اختصارها في هذه الصفحة، لكنها رواية تاريخية مقنعة إلى ابعد الحدود، مبينة مساوئ التشدد الديني الذي تفرضه الكنيسة على نفسها، وصوت الشر والخير في داخل النفس الإنسانية، والتي يظل البطل يقاومها من بداية الرواية حتى نهايتها، ولعل أعظم ما قدمه يوسف زيدان في روايته، هو ترك القاري حائراً بين الحقيقة والخيال، وخارجا من سطور الرواية مصدقا بالفعل ما حدث لذلك الراهب لأنها باختصار قدمت كحقيقة ثابتة، وكمرجع تاريخي لا يكفيك مرة واحدة في قراءته لتفهم أعماق أسراره .
ولعل الكاتب لم يكن يقصد أي رسالة إلى رهبان الكنيسة بحد ذاتهم ولكنه وجه رسالة ضمنية إلى رعاة الشر في كل مكان، ومدعي الفضيلة، والقائمين على مبدأ التشدد والقمع في جميع الديانات.
بقي أن نذكر أن رواية( عزازيل ) للكاتب المصري يوسف زيدان قد حصلت على جائزة الرواية العربية، وهي تستحق ذلك بجدارة، لأنها قدمت أحداثا غريبة شيقة بأسلوب مميز، وهي رواية ضخمة وعمل بالغ الإبداع قلما نجدها في أدبنا الروائي العربي.