ما حدث بالأمس، لم يكن مجرد عدوان، كان عبثية العدوان في ظل عدم تحقيق الهدف، الجدران في مواجهة الطائرات، والأسقف عارية في مواجهة الغل الإسرائيلي.
والموت ! الموت لا يترك لحظة تريث بين الفقد والفقد ليعطينا فرصة للحزن كما ينبغي أن يكون، فتحول الحزن إلى عد، واحد، اثنان، ثلاثة، عشرة، عشرين، القذائف لا تعد ولا يمكن احصاءها، والدموع لا تسعف، ولا تعني شيئا، في هذه اللحظة.
فإسرائيل حينما " تفلس" " تجعر" وقد أطلقت جعرتها الهوجاء في وجه غزة، أطلقتها ما قبل الإفطار وامتدت حتى ظهر اليوم، بدأت بإخراج سكان برج هنادي القريب من شاطئ البحر، باتصال من ضابط الشاباك على بواب البناية، أن لزاما على جميع السكان أن يتركوا خلفهم كل شيء، ساعة واحدة من الزمن، ليست كافية لأخذ شيء، يأخذ الأهالي أبناءهم، أموالهم المتوفرة في جيوبهم، ويلبسون أحذيتهم، ويتضرعون إلى الله في الطرقات.
ساعة من الانتظار في الشوارع القريبة، وقد خرج معهم تحسبا كل أصحاب المنازل المجاورة، فهم حتما سيطولهم من الموت جانب، حتى أخرج السكان من ثمانين شقة في برج هنادي، في موعد الإفطار، فنظروا إلى شقاء العمر وهو ينهار أمام أعينهم مع غروب الشمس.
وبعدها بساعات سقطت الصواريخ على هدف آخر، برج سكني أكبر، والتحذير هنا لا يعني تحسبا، بل هو دمار جزئي للسقف، وتمهيدا لإسقاط الجدران، صواريخ تقول لسكان برج الجوهرة أن الموت قادم بعد الصاروخ الثالث.
ولأن الجدران في غزة عنيدة، فأهلها أعند، تجمع الصحافيون الذين يحملون ذكريات عملهم وتدريبهم أمام البرج الذي يحوي عشرات المكاتب لوكالات اعلام محلية ودولية، أماكنهم التي سكنتهم قبل أن يسكنوها، فيها كاميراتهم، مقاعدهم، ومعلقة على جدران مكاتبهم شهادات تقديرهم، وتحت الطاولات مصفطة دروع عملهم، فوقفوا أمام باب البرج الممتد على شارعين لعل رؤيتهم هناك تكون شفيعا لجدران الشقاء بأن لا تسقط .
عشر وكالات اعلام وصحف ومكاتب إعلامية، وشقق سكنية، ومؤسسات تجارية وشركات، دمرتها إسرائيل بين غمضة عين وانتباهتها.
ولم يسقط برج الجوهرة، بل تحول إلى بيت من الأشباح بسبع صواريخ مدمرة، تركته غير آهل للحياة، طارت الأبواب، والنوافذ، وتحولت الأروقة إلى سواد، ومسح الرماد ألوانه المبهجة، وتحولت الصورة إلى كهف مرعب بلا أبواب أو نوافذ .
ولم تنته ليلة غزة القاسية هنا، فمع آذان الفجر صرخت إسرائيل صرخة عجزها الثانية، العجز الذي لا هدف له من كل هذا، وبدأت بقصف عشوائي متتابع، هز جدران المدينة، وأسقط أسقف أخرى، كانت في مواجهة الطائرات وحدها، مقر الجوازات، مراكز للشرطة، بيوت ملاصقة لها، شقاء عمر آخر لأناس أخرين.
سياسة قصف الأبراج ليست بالجديدة، فهي السياسة الأحب إلى قلب الاحتلال والتي أول من طرحها هو الجنرال الإسرائيلي غادي ايزنكوت في لبنان عام 2006 والتي تعتبر أقل كلفة بالنسبة له وأكثر حصادا للخسائر والأرواح بالنسبة للطرف الآخر، وكذلك فعل في غزة في حرب 2014 حينما بدأ بقصف برج الظافر والباشا والبرج الإيطالي، وهو بقصفه لبرجي هنادي والجوهرة بالأمس ضمن لنفسه خسائر في 320 شقة سكنية، لكل منها قصة وأصحاب وذكريات وجدران واجهت الطائرات وحدها.