قائد الطوفان قائد الطوفان

على شرفة عائلة الكولك.. عزيز يعد النجوم، وآدم وزيد يكملان طريقهما نحو السماء

الرسالة نت- رشا فرحات

هنا ليل غزة، ما بعد منتصف الليل، شارع الوحدة، هدوء وسلام، وعائلات التمست في ساعتين بعضا من الراحة أو غفوة لم تنلها الأعين منذ خمسة أيام.
على النافذة طفل يتسلى بعد النجوم، بعد أن طلبت منه أمه ذلك لتلهيه عن أصوات القذائف البعيدة، وتحاول عبثا أن تهدئ شقيقه لعله ينام قبل أن يشتد الصوت أكثر.
ثم تسقط قذيفة، وأخرى، ثم ثالثة، ويصل العد إلى خمسين غارة إسرائيلية على المدنيين في بيوتهم أمام أعين العالم، وأمام كاميرات الصحافيين التي تنقل الصورة أولا بأول.
هذا شارع الوحدة، حيث ركض الجميع نحو الجميع. في دقيقة سقط خلالها خمسون صاروخا، وذلك الطفل الذي صرخ من النافذة ليخبر الجميع بأن الطائرات قد أتت، لم يكن يعلم أنها أتت لتقتله.
في حي من أكثر الأحياء حيوية في المدينة، مليء بالمتاجر والشركات، والجمعيات والمدارس، مليء بالحياة التي تحولت فجأة إلى بيوت للأشباح.
وأنت تلف وجهك نحو حي الرمال على الزاوية المؤدية إلى الحي الأكثر ازدحاما بالسكان، تنزل صواريخ الاحتلال واحدا تلو الآخر، على سطر واحد لتدك ثلاثة بنايات متتابعة تسكنها عائلات كانت تعتقد أنها في مأمن.
 أبو عوف والكولك وشهاب واشكنتنا، جيران الحياة، الذين تحولوا إلى جيران الموت.
الدفاع المدني يقف حائرا بعد تأخر وصوله، لأن الاحتلال قبل أن يدك المدنيين يدك الشوارع المؤدية إليهم حتى يصّعب من وصول سيارات الإسعاف والدفاع المدني، فأصبحت مليئة بالحفر التي صنعتها الطائرات الحربية. 
ثم يأتي الصباح، فجر آخر على غزة، فيركض أهل المدينة نحو أصوات الأطفال، التي سمعوها بالأمس، النوافذ ركام على الأرض، والأطفال الذين كانوا يعدون النجوم أكملوا طريقهم نحو السماء.
عشرات من المدنيين يحاولون المساعدة، يحاول الدفاع المدني انتشال الجثث، أو حتى انتشال جزء منها، لاثنتي عشرة ساعة متواصلة لا زالت أصوات بعضهم تنادي من تحت الأنقاض، بينما انقطعت أصوات البعض، وخفتت أصوات آخرين تدريجيا.
الوصول إلى الموت كان أسرع من وصول سيارات الإسعاف ورجال الدفاع المدني، فالمنطقة تحولت إلى جبل من الركام، تكوم فوق الأجساد الطرية، فيحاول الجيران رفعها بالأيدي حجرا تلو آخر، ويصرخون ملء قلوبهم المتألمة.
هنا بين الركام والركام عشرات القصص، لأطفال كانوا ينتظرون أن تنتهي الحرب ليبدأ عيدهم، خرج بعضهم ولم يخرج آخرون.
عزيز الكولك، ابن عشر سنوات، خرج من تحت الأنقاض، كامل الجسد، ، هو الناجي الوحيد من العائلة، يجلس الآن بجانب الأجساد الملفوفة بالبياض، يعدهم كما كان يعد النجوم بالأمس، لعله يخطئ العد، ويخبره صوت بأن أحدهم يمكن أن يقوم الآن ليعانقه عناقا أخيرا، ثم يصحبه معه إلى البيت.
ينظر عزيز إلى وجهي شقيقيه زيد وآدم، وقد تحولا إلى بنك أهداف إسرائيلي، ويسأل نفسه للمرة الألف، لماذا مات آدم وزيد، ينظر إليهم لعله يبحث عن مزحة ما في وجهيهما، تقول له أن ما جرى كان حلما، كان مجرد لعبة، وبأنه سيمسك يد أمه وأبيه ويقومان معه، وسيخبرهما أن هذه اللعبة لم تعجبه، وستصعد الحجارة متضامنة مع أطفال الحي، لتركب البيت كما يركب مكعباته، ثم تلون الصورة من جديد بأقلام شقيقه آدم، ويكون ما رآه مجرد كذبة، فهو يرضى أن يكذب عينيه هذه المرة .
خرج عزيز دون أشقائه زيد وآدم، ودون أمه دعاء الحتة ووالده عزت الكولك، وغدا يمكنه أن يمارس حياة بنصف حياة، في صورة لم يعد يدري الناظر إليها من فيها هو الميت ومن هو الحي.
في لحظة القصف احتضن عزيز الأرض، بينما انكب والده بجسده عليه وعلى أخويه، وجسد أمه فوق الجميع، يحيطهم كخيمة، تظللهم وترتل، وهو يسمع انخفاض تراتيلها تدريجيا حتى الموت، ووالده إلى جانبه لا يرد على سؤاله الملح، هل متنا يا أبي؟!!
 يخرج عزيز وحده، وتحلق عائلته كلها، ثم تكمل الطريق نحو السماء.
يمكننا أن نعد حتى هذه اللحظة أربعة وأربعين شهيدا، من عائلات متفرقة، خرجوا من تحت الأنقاض أشلاء ممزقة، دون قصصهم، ولا ملابسهم، ولا أحذيتهم، ولا تلك الكتب التي لونوا سطورها بإشارات حتى يعاودوا الدراسة فيها حينما يهدأ القلب. 
هناك كثير من الأحلام توقفت حينما حلقت أرواح أصحابها إلى السماء، ولا زال هناك غيرهم، تحت الأنقاض حتى اللحظة، أرقام أخرى لأناس آخرين، كانوا قد مروا بالمكان، أو كانوا ضيوفا عند أقربائهم، أو جيرانh ساروا بأقدامهم ليلتمسوا أنسا في ليلة مليئة بالرعب، فغادروا كل الأمكنة إلى الأبد.

البث المباشر