عند تلقيهم أول إشارة فور وقوع صاروخ في أي منطقة كانت بقطاع غزة، يهرع رجال الإسعاف كعادتهم إلى المكان رغم أن تلك القذائف الإسرائيلية تعرضهم للمخاطر وقد يخسرون حياتهم وهم ينقذون الاخرين كما اعتادوا في كل عدوان إسرائيلي.
دون رتب أو نياشين أو حتى ملابس تليق بمهمتهم أو سيارات حديثة مجهزة بأحدث وسائل الإسعافات الأولية يتوجه المسعفون إلى حيث تأتيهم الإشارة، وفور وصولهم هنا طفل يصرخ تحت الأنقاض ومعالم وجهه يخفيها الرماد، وهذا شاب يئن وينزف، وتلك سيدة تفتح عينيها وتبتسم دون نفس، واخر مسن أطرافه في ركن أخر.
مشاهد مفزعة لا يستوعبها العقل، فقبل أن تنقلها عدسات الكاميرا لتنقل إلى العالم، يستقبلها رجال الإسعاف وكثيرا ما يخفون تلك المشاهد بالأكياس البلاستيكية لتشييع جثامين الشهداء، بدلا من عرضها حفاظا على مشاعر المواطنين ولحرمة الشهداء.
رجال الإسعاف في قطاع غزة أول الشاهدين على مجازر الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين الأبرياء، يواصلون عملهم ليل نهار فترة التصعيد، ويعرضون حياتهم للخطر غير مكترثين لإطلاق الصواريخ فكل ما يشغلهم هو انقاذ أرواح من تبقى على قيد الحياة .
حالة الإرهاق والضغط التي يعيشها رجال الإسعاف تجعلهم لا يركزون بملامح ضحاياهم مما يفزعهم عند اقترابهم من ثلاجات الموتى وهم يضعون الشهداء أن يكون المستهدف أحد أفراد عائلته أو صديق، ومع ذلك لا يسمحون لأنفسهم بالانهيار فالوقت غير مناسب فلديهم إشارات أخرى لبيوت نسفت على رؤوس ساكنيها.
بعد أيام من التصعيد على قطاع غزة، لم يستوعب الطفل عمر سمور ثلاث سنوات أن العيد جاء دون عيدية من والده المسعف أسامة ، فهو بالكاد بات يدرك مفهوم العيد والعيدية، فسرعان ما سأل والدته "وين بابا اشتقتله"، لتجيبه "في الشغل"، فالصغير لا يفهم سوى أن هناك قصف ولابد أن يكون والده بجانبه.
الحاح الصغير ومحاولة الام تبسيط الأمور لم تمنعه من الاتصال على والده عبر الواتساب ليقول له:" بابا روح"، ليسأله الاب: ليش يا بابا"، فيرد عليه: انا التمست من القصف تعال انت تأخرت يا بابا".
هذا الصغير فقدت والدته جنينها في الشهر الرابع خلال أيام التصعيد، ومع ذلك يواصل زوجها عمله، فكلما سمح له الوقت يسترق القليل من الوقت ليطمئن على عائلته.
تواصلت "الرسالة" معه فاستجاب بعد توجيه سيارة الإسعاف إلى حي الصبرة بعد وصول إشارة قصف لبيت في المنطقة، ثم تحدث عن تجربته في الإسعاف ففي اليوم الذي لا يعمل في الميدان يتلقى الاتصالات الطارئة للإسعاف.
يقول:" قبل وصولنا إلى مكان الحدث لا ندرك حجم الكارثة، فغالبا توجهنا الاشلاء المتناثرة في كل مكان، وفي حال كان عدد الشهداء والمصابين كبير نطلب الدعم ليلتحق بنا عدد اخر من سيارات الإسعاف والمسعفين".
ويتابع:" غالبا يعرقل المواطنين عملنا فهم يتعاطفون مع الشهيد أكثر من المصاب (..) نحن المسعفون نولي الأهمية لإنعاش المصاب وتضميد جراحه قبل وصوله للمستشفى بينما المواطن يصرخ علينا لنحمل الشهداء وأحيانا نجد في السيارة الواحدة أكثر من شهيد ومصاب بسبب تدخل المواطنين".
ويوضح سمور أنهم غالبا ما يغيرون خططهم واتجاهاتهم بسبب تهديدات المواطنين أثناء عملهم في الميدان، ومع ذلك يقدرون عاطفة الناس.
يصمت قليلا ثم تغلبه العبرة ليحكي أنه كثيرا ما يخشى أن يكون بين يديه فرد من أسرته أو أصدقاءه، مستذكرا موقفا حدث معه في عدوان 2014 أنه من شدة الإرهاق كان يحمل صديقه شهيدا بين يديه دون أن يدري حتى وصل ثلاجة الموتى وأدرك ملامحه.
أما عن صغاره، يقول المسعف سمور: أعود للبيت وهم نيام، وبمجرد أن أفتح الباب يقفز صغيري عمر من نومه ليحتضني ويطلب أن اعد له كوب النسكافيه ويتحدث معي كما لو كان كبيرا، ثم يطلب مني عدم المغادرة خوفا على حياتي من القصف".
ويضيف: منذ التحاقنا في هذا المجال ندرك أن وقتنا ليس ملك لنا، فالأهم هو إنقاذ المواطن"، متابعا: حتى الطعام لا موعد له فكثيرا ما ننسى تناوله بسبب الضغط ونحاول باستمرار التخفيف عن بعضنا البعض فالمشاهد التي نراها متعبة وقاسية.
وفي بعض الأحيان يحاول المسعفون استراق دقائق قليلة للراحة والنوم، لكن سرعان ما يأتي صاروخ يقصف مدنيين يكون صوته قوي بحجم دماره فيهرعون إلى المكان لمواصلة عملهم الذي اعتادوا عليه كل معركة لإنقاذ ما تبقى من أرواح.