عند الساعة الواحدة ليلا، وتحت وطأة أصوات القصف المرعبة، كانت تسترق الخطى، تغطيها عتمة الليل الحالك الذي تبدده بين الفينة والأخرى كرات اللهب المنبعثة مع كل صاروخ يضرب عمق الأرض من حولها.
تتثاقل خطاها من الخوف، وتحاول جاهدة الوصول إلى الطرف الآخر من الشارع وصولا إلى بيت جيرانها.
تحمل أم عبد الله في العقد الخامس من عمرها في يدها (شنطة) بنية اللون، هي كل ما خرجت به من منزلها في أقسى اللحظات التي تسارعت بها دقات قلبها.
تعتقد السيدة التي إصفر لونها من شدة الخوف، وبدأ جبينها يتصبب عرقا، أن ابتعادها قليلا عن منزلها، يمكن أن يكون أكثر أمنا من غارات الطائرات الإسرائيلية التي تضرب بقوة في كل مكان.
قبل الخروج من منزلها، سارعت أم عبد الله بلملمة أوراقها الرسمية في شنطتها، ووضعت بها القليل من المال الذي تملكه، وكل ما يثبت ملكيتها لبيتها.
تلك الشنطة تكون الناجية الوحيدة من القصف، حال قرر الاحتلال تدمير المنزل، لكنها عبثا تحاول أن جمع تعب العمر، وتعوض صاحبتها شيئا من الفقد.
كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا من يوم الجمعة ثاني أيام عيد الفطر، عندما ألقت طائرة حربية إسرائيلية صاروخا على منزل أبو أسامة في حي الصفطاوي شمال مدينة غزة.
ثلاث طبقات اسمنتية سويت بالأرض، وحطمت الطائرات كل ما بداخلها في لحظة واحدة دون أن تنتظر أحدا، حينها خيم الدخان الأسود الذي تطايرت معه الشظايا على المكان.
دقائق قليلة حتى بدت تتضح الرؤية، وظهر أبو أسامة الذي وصل مسرعا لتفقد بقايا منزله وهو يحمل شنطة سوداء، وعلامات الحسرة تكتسي تجاعيد وجهه المرهق من القصف.
في تلك الشنطة حاول الستيني تجميع أوراقه الرسمية وبطاقات أسرته الشخصية، وبعضا من مدخراته، وذكريات زوجته التي غادرت الدنيا قبل أقل من شهرين، وذلك في غضون دقائق لا تتجاوز عددها أصابع اليدين منحها اياها العدو لإخلاء منزله.
ما بداخل الشنطة فقط، هو جميع ما خرج به أبو أسامة من منزله، وترك كل تعب العمر خلفه يتناثر في السماء، ويهوي إلى الأرض مرة أخرى، لأن الاحتلال لا يمنح فرصة لأحد بإخلاء احتياجاته قبل تنفيذ قراره بالتدمير.
الشنطة هي عنوان إخلاء المنازل في غزة، يحرص الجميع في هذه البقعة المهددة بالقصف والدمار على تجهيزها مع انطلاق شرارة العدوان، لأنهم يدركون أنهم يمكن أن يكونوا الهدف في أي لحظة.
تختلف مقتنيات الشنطة من أسرة لأخرى، لكنها مهما كبر حجمها لن تحمل إلا اليسير من الاحتياجات الضرورية لاستكمال الحياة بعد القصف.
عندما تدخل أي منزل في قطاع غزة لحظة العدوان، سيلفت انتباهك الشنطة التي يحرص الغزيين على وضعها قرب مدخل المنزل، وذلك لسهولة احتضانها في حال قرروا الاخلاء بأي لحظة.
إلى جانب تلك الشنطة تحرص نساء غزة أن يضعن الملابس المخصصة للصلاة، ليسترن بها أجسادهن حال وقع القصف فجأة، واضطررن النزول إلى الشارع دون سابق إنذار.
في اليوم العاشر للعدوان، أظهرت الاحصاءات الرسمية أن الاحتلال شن أكثر من ١٨١٠ غارات، أدت لتدمير ١٣٣٥ وحدة سكنية ما بين الهدم الكلي والبليغ، بالإضافة إلى تضرر ١٢٨٨٦ وحدة أخرى.
وأجبر العدوان على نزوح ١٠٧ آلاف مواطن قسرا من منازلهم.
وراء العدد الكبير من النازحين حكايا كثيرة تمزج بين الخوف والثبات، لكنها جميعا كانت بها شنطة تلملم أحلامهم، وتبحث عن السلام بين جدران أنهكها القصف، وبيوت قض مضاجعها أصوات الانفجارات.
في العدوان.. شنطة تختصر تعب العمر
الرسالة نت- محمد أبو قمر