في البيادر الواقعة على جبل صبيح، إلى جانب أشجار الزيتون والتين، تقع قرية بيتا، مفرق المارين والمسافرين، فسميت بيتا لأنها محطة عابري السبيل، ولأن أهلها أهل الكرم، فيبيت في بيوتهم التجار المارون عبر الجبل.
وفي بيتا عين ماء حلوة كالسكر، يشرب منها أهلها وأهل عقربة وأهل عورتا، لأن الماء في بيتا الكرم يمكنه أن يسقي القرى المجاورة والضيوف العابرة، فظلت بيتا على الجبل، وأهلها يصعدون وينزلون في الوادي، ويتعبون في حصادهم حتى اليوم، وحينما طالهم الاستيطان كما طال كثيرا من الأراضي في قضاء نابلس، كان صوت بيتا عاليا، وأنيابها كأنياب الليث في جوف الجبل، تصرخ كلما صرخ جريح، وارتقى شهيد.
واليوم، لم يقبل ألفا مواطني يسكنون بيتا بأقل من رفض الحياة إذا ما صودرت بيادرهم كما أراد الاحتلال أن يفعل، أو كما هو فاعل منذ سنوات حينما بدأ ببناء مستوطنة "أفيتار" فوق جبل صبيح التي ستأكل معظم أراضي القرية.
أهل بيتا يفقدون كل جمعة شهيدا، وعشرات من الإصابات، وهكذا ارتقى أربعة شهداء في شهر واحد، في مشاهد تمر عبر الشاشات وعبر مسامع السلطة الفلسطينية مرور الكرام، دون تعليق أو تأبين لروح شهيد.
ولأن ما حك جلدك مثل ظفرك، قررت بيتا أن تشتعل، فأخذت قبسا من نار غزة لتدفئ برد قلبها، وبدأت منذ أيام وتيرة الارباك الليلي التي بدأتها غزة واستلهمها أهل الجبل، فبدأوا بإرعاب المستوطنين.
يحمل شباب بيتا بالعشرات شعلات النار ويسيرون من قاع الوادي صاعدين إلى جبل صبيح، ثم ينزلون بصحبة نيرانهم المشتعلة، وهم يصرخون من بعيد فيرد الليل صدى صرخاتهم وتهليلهم وتكبيراتهم، فيبثون رعبا في فضاء الاستيطان الأجوف.
هتاف، اضاءة ليزر، لهيب من النار يرتفع، يضئ لهبا، يعانق السماء فتتلبد الغيوم بالسواد، في عتمة الليل الحالك، حيث تتأجج أصوات الرعب والتهليل.
وها هي وحدة الإرباك الليلي تفتح فرعا في بيتا، الأول في الضفة الغربية، وربما ليس الأخير، ونعود بها إلى زمن جميل إلى الوراء، وكأن أحدا أمسك الصورة المقلوبة، وعدل من وضعية البرواز، فبدت أكثر جمالا ووضوحا في عين المارين هناك لعلهم ألقوا نظرة على جبل صبيح، البؤرة التي أراد لها الاحتلال أن تكون فاشتعلت كقطعة من نار في حلق الاستيطان.
وشباب بيتا الملثمون، الرافعون أرواحهم على الرماح، المكحلون بالكوفية والتائهون بين سواد الليل ونيران اللهب، يخرجون كالأشباح من بين العتمة: "رسالة إلى المستوطنين، عليكم إخلاء بؤركم، لن تنعموا بأي هدوء ولا استقرار".
على السيارة التي تخترق جنبات جبل صبيح الوعرة يحمل شباب الارباك إطارات يشعلونها ليلا فتضيء العتمة وتقذف الاحتلال برسالة "لا هناء فيها ولا ماء" حتى تخرجوا من كل بيوت بيتا.
من يدخل بيتا يجب أن يدفع الثمن، لأن الأرض لأصحاب الأرض، يسقط شهيد، ثم جريح، تلو الجريح ورغم ذلك يعود الثائرون ليظهروا للجندي الخائف، من خلف الشجرة، من بين التلة الوعرة، من تحت السرير الدافئ، ليتحول إلى شبح مرعب ابتكره شباب بيتا، ثم قسموا أنفسهم لوحدات لكل منهم دوره.
على الجبل وحدة الكوشوك، التي تحرق ما تحرق وتضخ نيران الليل بين أصوات الصرخات المرعبة، وتبدأ عملها من بعد الظهر وحتى ساعات المساء المتأخرة وإلى جانبها وحدة المقلاع ووحدة البالونات الحارقة.
يهرب المستوطنون، لأن أهل بيتا وحدهم يفهمون جبن المستوطن، ثم ترصد وحدة الإعلام التابعة للوحدات السابقة كلها، وتنقل الحدث، وتكتب آلاف الحكايات عن وحدة ليلية أربكت الاحتلال، عن قبس من نار غزة، أشعلتها بيتا في الضفة.