تقف السلطة الفلسطينية اليوم على مفترق طرق محاطة بالفشل، وتحاصرها الأزمات من كل جانب، آخرها الغضب العارم والتظاهرات في مدن الضفة المحتلة المطالبة برحيلها عقب جريمة اغتيال الناشط والمعارض السياسي نزار بنات.
وأمام هذا المفترق تستعد السلطة للهروب للوراء، بالعودة للمفاوضات التي فشلت على مدار 28 عاماً في تحقيق أي إنجاز، وعلى العكس أدت سياستها لتدهور القضية الفلسطينية.
الغريب أن السلطة تلهث وراء مفاوضات مع حكومة الاحتلال الجديدة برئاسة نفتالي بينت الأكثر تطرفاً من سابقه نتانياهو، والداعم الكبير للاستيطان ومشروع ضم الضفة والرافض لفكرة إقامة دولة فلسطينية، وتتمحور رؤيته للتعامل مع الجانب الفلسطيني في "السلام الاقتصادي".
ويبدو أن السلطة هنا تلتقي مع بينت في هذا الجانب حيث قدمت وثيقة للإدارة الأميركية الجديدة تتضمن 30 مقترحًا تتناول عددا من القضايا السياسية التي تتعلق بإعادة بسط السلطة الفلسطينية سيطرتها على العديد من القضايا، وتحسين الوضع الاقتصادي الفلسطيني والاهتمام بأوضاع حياة السكان.
وكشفت صحيفة هآرتس العبرية الثلاثاء، عن تقديم كبار قيادات السلطة الفلسطينية، إلى الإدارة الأميركية وثيقة مقترحات سياسية واقتصادية تهدف إلى تحقيقها خلال فترة الرئيس الحالي جو بايدن.
وتتضمن الوثيقة سلسلة من المبادرات المتعلقة بالمجال المدني مثل زيادة تصاريح العمل في (إسرائيل)، والسماح بجمع شمل العائلات، وتنظيم البناء في التجمعات الفلسطينية بسبب النمو السكاني الطبيعي، وإصدار تصاريح زيارات سياحية للمناطق الفلسطينية، والعمل على إنشاء مشاريع سياحية بما فيها منطقة البحر الميت.
وتطالب الوثيقة السماح للسلطة باستيراد الوقود مباشرة من الأردن عبر خط أنابيب مباشر وتجهيز البنية التحتية اللازمة لذلك، والعمل على تحسين قدرة السلطة الفلسطينية على تصدير المنتجات وإقامة منطقة تجارة حرة في المناطق والحصول على تصاريح بناء لمحطات الطاقة ومشاريع الطاقة الخضراء.
كما تتضمن الوثيقة سلسلة من التحركات بشأن الوضع السياسي، منها مطالبة العودة إلى الأوضاع السابقة في المسجد الأقصى، وإعادة فتح المؤسسات الفلسطينية التي أغلقتها (إسرائيل) في شرقي القدس، وتجميد البناء في المستوطنات وإخلاء البؤر الاستيطانية، وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين المعتقلين ما قبل اتفاق أوسلو كجزء من تحرك سياسي تم تجميده في عام 2014.
ومطلب آخر يتعلق بتجديد سلطة الشرطة الفلسطينية من خلال تجديد التصريح لضباط الشرطة بحمل الأسلحة التي أخذت منهم في السنوات الأخيرة، وإنشاء مطار دولي في الضفة الغربية، ونقل أطقم فلسطينية على المعبر الدولي عند جسر اللنبي، وخطوة أخرى تتعلق بإعادة جثامين الفلسطينيين الذين قتلتهم (إسرائيل) في ظروف مختلفة.
الوثيقة تعيد الحديث عما يسمى بـ"السلام الاقتصادي" التي ما انفكت تُطرح في كل مكان بدءا من خطة وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري في 2013، وخطة جاريد كوشنر مستشار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، في 2019، وانتهاءً بتقارير مؤسسات من قبيل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الداعية إلى علاقات اقتصادية دون عوائق بين شركات القطاع الخاص الفلسطيني و(الإسرائيلي).
السلطة التي تدرك أن الاحتلال لا يقبل بأي حل سياسي أو فكرة إقامة دولة فلسطينية وأقصى ما يمكن أن يقبل به هو حكم ذاتي، تدفع اليوم باتجاه "السلام الاقتصادي" وهو مشروع قديم جديد تدعمه حكومة الاحتلال ويفترض وجود حل اقتصادي لأي مشكلة سياسية، والهدف منه إلهاء الفلسطينيين عن المطالبة بحقهم في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم بالمحفزات الاقتصادية.
وتدفع السلطة بهذا الاتجاه متجاهلة أنه في ظل عدم وجود تكافؤ سياسي بين الطرفين من حيث السيادة والسيطرة على الموارد فإن أي حلول اقتصادية تبقي الجانب الفلسطيني في خانة التبعية ويخضع للابتزاز باستمرار، وقد ظهر ذلك عبر أموال المقاصة التي يحتجزها الاحتلال عند أي نقطة خلاف.
من ناحية أخرى فإن الواقع الاقتصادي في الضفة والذي يبدو منفتحا إلى حد كبير على الاحتلال الإسرائيلي لم يشهد نهضة اقتصادية حقيقية أو تنموية وإنما بقي رهينة بيد اقتصاد الاحتلال الذي يتحكم في كل شيء ويمكنه تدمير الواقع الاقتصادي في الضفة بقرار واحد.
فقد بقي الاقتصاد الفلسطيني عاجزا عن بناء قاعدة إنتاجية قوية في قطاعي الصناعة والزراعة، وارتفع العجز التجاري بشكل مذهل، وبقي معتمدا على تصدير العمالة إلى (إسرائيل) وعلى أسواق السلع، وتوقفها بقرار من الاحتلال يعني انهيار هذه القطاعات.
كما أن كل السنوات الماضية من التعاون الاقتصادي والتنسيق الأمني لم تنجح في سد الفجوات الهائلة بين نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، حيث تجاوز الاقتصاد الإسرائيلي نظيره الفلسطيني بمقدار الضعف في عام 1967 عندما احتلت (إسرائيل) الضفة الغربية وقطاع غزة، أما اليوم، فقد زادت الهوة بينهما بأكثر من 11 ضعفا.
الوثيقة التي تطرحها السلطة اليوم وتستجدي الإدارة الامريكية الجديدة لتبنيها، تتفق في كثير من تفاصيل صفقة القرن التي طرحها الرئيس الامريكي السابق دونالد ترمب، والتي ركزت على الجانب الاقتصادي وضمان تحسين الأوضاع الاقتصادية للفلسطينيين، مقابل تصفية القضية الفلسطينية.
وتعتقد السلطة أن جزءا من أزمتها الوجودية اليوم هو فشل مسار التسوية وغياب أي عملية سياسية منذ العام 2014، لذا تسعى لتحريك هذا الملف لتروج للجمهور الفلسطيني أن مشروعها لم يفشل وأن هناك فرصة لتحقيق المطالب الفلسطينية بعدما تغيرت الإدارة الامريكية والإسرائيلية، وترى أنها فرصة لتعزز مكانها ولتستعيد الكثير من صلاحياتها التي صادرها الاحتلال خلال السنوات الماضية وأظهرها سلطة ضعيفة مهمشة ووكيلا أمنيا له.
وتتجاهل أن العودة لهذا المسار الفاشل سيفاقم من أزمتها ويزيد من غضب الجمهور الفلسطيني ضدها.