تطالب السلطة في رام الله، (إسرائيل) بتحسينات اقتصادية والعودة للعمل ببعض بنود اتفاقية باريس الاقتصادية التي يتنصل الاحتلال من تطبيقها لأكثر من ربع قرن.
وتأتي مطالبات السلطة في وقت تعاني فيه من أزمات مالية وفراغٍ سياسيٍ وغضبٍ جماهيريٍ كبيرٍ من حالة القمع التي صاحبت مقتل المعارض السياسي نزار بنات.
ولعل مراسلات السلطة الاقتصادية للجانب (الإسرائيلي) والاتفاق على تعميق العلاقات الاقتصادية، يخالف النهج الذي قال رئيس الحكومة محمد اشتية إنه يواصل العمل عليه ضمن ما يسميه "الانفكاك الاقتصادي عن (إسرائيل)".
لجنة مشتركة
وكشفت صحيفة "هآرتس" العبرية عن محادثات متقدمة لتشكيل لجنة مشتركة (إسرائيلية) – فلسطينية للترويج للقضايا الاقتصادية وإزالة الحواجز التي من شأنها تسهيل النشاط الاقتصادي للسلطة. "مرفق انفوجرافيك"
ومع إدراك السلطة أن مسألة المفاوضات لن تكون مجدية بعد فشل مشروع التسوية وانتهاء أوسلو، وفرض الاحتلال وقائع على الأرض تجعل من الصعب قيام دولة فلسطينية في الوقت الراهن، إلا أنها تتشبث بهذا الخيار، وترفض الذهاب نحو أي مواجهة مع الاحتلال حتى لو على صعيد المقاومة الشعبية أو المواجهة السياسية والدبلوماسية.
السلطة تناشد (إسرائيل) لإنقاذها من الأزمة المالية
وأمام تعنت الاحتلال ورفضه لأي حلول سياسية تتجه السلطة نحو تعزيز "السلام الاقتصادي" الذي يؤمن به رئيس حكومة الاحتلال الجديد نفتالي بينيت وهو مشروع سابقه بنيامين نتانياهو، الذي فرضه على أرض الواقع خلال السنوات الماضية.
الإعلام العبري أكد أن محادثات تشكيل لجنة فلسطينية- (إسرائيلية) من أجل تسهيل النشاط الاقتصادي للسلطة الوطنية الفلسطينية المشتركة، أحرزت تقدما.
مراسل "الرسالة نت" حصل من مصدر مطّلع على تفاصيل عن اللجنة المزمع تشكيلها والمراسلات التي تمت خلال الفترة الماضية.
وقال المصدر المسئول في سلطة رام الله الذي رفض الكشف عن اسمه نظرا لحساسية موقعه، إن (إسرائيل) وافقت على منح السلطة تحسينات اقتصادية مقابل تعاون أكبر في المجال الأمني بين الطرفين.
وفي تفاصيل الحدث، أضاف المصدر، إن وزير الشؤون المدنية في حكومة فتح حسين الشيخ، بعث برسالة لحكومة الاحتلال الجديدة التي يرأسها نفتالي بينت، "يناشد فيها بضرورة التحرك لإنقاذ السلطة من الأزمة المالية التي تمر بها خلال الفترة الحالية".
مصدر: تحسينات مرتقبة مقابل زيادة القبضة الأمنية في الضفة
وجاء رد حكومة الاحتلال بعد أسابيع من إرسال السلطة للرسالة المكتوبة، بدراسة تشكيل لجنة مشتركة لتحسينات اقتصادية تضمن إيرادات مالية أكبر للسلطة في ظل تضرر ميزانية السلطة خلال الأعوام الأخيرة.
ووفق المصدر، فإن السلطة تعاني من ضربة مالية مزدوجة تتمثل في قلة الإيرادات بسبب جائحة كورونا، وقلة المساعدات الخارجية خلال السنوات الأربعة الماضية، وخصوصا بعدما أوقف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الدعم الأمريكي، وسارت دول الخليج على نفس الخطى. "مرفق انفوجرافيك "
تفاصيل الأزمة
وبالحديث عن جذور الأزمة المالية للسلطة التي تحاول الهرب منها باللجوء الى الاحتلال، فإنه مع قلة المساعدات الخارجية خلال السنوات الأخيرة التي تمثل أكثر من ربع ميزانية السلطة، وقلة الإيرادات بسبب جائحة كورونا، تعيش السلطة أزمة خانقة مع استمرار الترهل في المصاريف والرواتب والنثريات.
وتظهر البيانات التي أفصحت عنها وزارة المالية برام الله، الانخفاض الكبير في الدعم الخارجي لميزانيتها وخصوصا بعد عام 2017.
ورغم تعويل السلطة على عودة المساعدات في عهد الرئيس الأمريكي جو بايدن، إلا أن ذلك لم يكن بالمستوى المطلوب، وهو ما يزيد الدعوات من قيادة السلطة بضرورة دعم ميزانيتها التي تعاني من ترهل في الديون.
وقال رئيس حكومة فتح محمد اشتية، إن انحسار المنح والمساعدات الخارجية الوافدة إلى ميزانية السلطة، أثر سلبا على الإنفاق، وزاد معدلات الديون".
بدوره، قال البروفيسور الاقتصادي أنور أبو الرب إن المساعدات العربية والدولية قلّت كثيرا خلال السنوات الأخيرة، وهو ما زاد الأزمة المالية للسلطة.
وأوضح في حديث لـ "الرسالة نت" أن السلطة كانت تلجأ للديون حتى في ظل وجود مساعدات، "لذلك من الطبيعي أن تستفحل الأزمة بعد توقفها".
وأشار أبو الرب إلى أن بند المساعدات عنصر رئيس في ميزانية السلطة إلى جانب المقاصة والإيرادات الداخلية، "وتوقفه لسنوات في عهد ترامب خلق أزمة كبيرة".
د. أبو الرب: السلطة كانت تلجأ للديون حتى في ظل وجود مساعدات
وبيّن أبو الرب أن الولايات المتحدة كانت تقدم 400 مليون دولار سنويًا لخزينة السلطة، "ورغم أن عودة هذا المبلغ لن تُنهي الأزمة المالية للسلطة لكنه سيخفف منها، كما أن هناك دولا أخرى أوقفت دعمها بضغط من الرئيس الأمريكي السابق ترامب، وتطلب السلطة عودتها الآن، خاصة أن ديون السلطة بارتفاع مستمر شهريًا".
تقلّص الايرادات
ولعل تضرر إيرادات المقاصة التي تجبيها السلطة من معابر قطاع غزة هي من أحد الأسباب التي دفعتها للتوجه إلى طلب تسهيلات اقتصادية من الاحتلال.
وفي هذا السياق، قال المصدر المطّلع إن أموال المقاصة التي تجبيها السلطة تقلصت بصورة ملحوظة، بسبب استمرار إغلاق معبر "كرم أبو سالم" لأكثر من شهرين الذي يعتبر المعبر الرئيسي والوحيد لإدخال البضائع لقطاع غزة.
ويبدو الاستياء واضحًا من قيادة السلطة بسبب قلة الشاحنات الواردة لقطاع غزة، والإغلاق الجزئي لمعبر كرم أبو سالم، "وهو ما يعني انخفاض أموال المقاصة الواردة لخزينة السلطة وخصوصا بعد العدوان الأخير على غزة".
وتأتي قلة إيرادات المقاصة في وقت لا يمكن لميزانية السلطة التخلي عن أموال معبر كرم أبو سالم التي تمثّل قرابة 40% من مجمل أموال المقاصة، في حين تمثل أموال المقاصة مجتمعة أكثر من 60% من مجمل ميزانية السلطة. "مرفق انفوجرافيك"
وتقدر أموال المقاصة بنحو 200 مليون دولار شهريا، يقتطع منها الاحتلال حوالي 40 مليون دولار.
وبجانب التحصيلات المالية التي تهدف السلطة لجمعها من التسهيلات التي طلبتها من الاحتلال، قال المصدر المطّلع إن حكومة اشتية تهدف لإشعار المواطن بأن تحسنا طرأ على الوضع الاقتصادي وهو ما قد يقلل من حالة السخط والغضب التي فرضتها التصرفات السلبية للسلطة في الفترة الأخيرة، "والتي كان آخرها قتل المعارض السياسي نزار بنات، وما تبعها من أحداث وقمع للمظاهرات والنشطاء".
ويؤكد المصدر أن السلطة ليس بأيديها أوراق قوة تقدمها مقابل التحسينات المرتقبة، سوى زيادة قبضتها الأمنية على الضفة، "وهو ما جرى الاتفاق عليه بين حسين الشيخ والجانب الإسرائيلي".
ولفت المصدر إلى أن التحسينات الاقتصادية تتمثل في تسهيل حركة نقل البضائع بين المحافظات الفلسطينية، بتنسيق يومي بين الشؤون المدنية للسلطة وسلطات الاحتلال.
وأوضح أن هناك طلبا لزيادة عدد تصاريح العمال الفلسطينيين، للعمل في الأراضي المحتلة، إلا أن هذا الطلب وفق المصدر لا يزال قيد الدراسة مع (الشاباك) بما يتوافق مع حالة الأمن.
وتضمنت طلبات السلطة "وقف الاقتطاع من أموال المقاصة شهريا"، وهو ما قوبل بالرفض المطلق.
اقتطاعات المقاصة
وتذهب السلطة إلى الاحتلال لطلب تسهيلات اقتصادية، في الوقت الذي تصر فيه حكومة الاحتلال على اقتطاع أموال المقاصة.
واقتطعت (إسرائيل) منذ بداية العام أكثر من نصف مليار شيكل تعويضات لأهالي القتلى وتسديد أموال لصافي الإقراض وغيرها من البنود، وهو ما زاد من حدة الأزمة المالية في ميزانية السلطة.
وفي هذا السياق أكدت القناة العبرية السابعة الأحد الماضي أن المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر التابع للاحتلال (الكابينيت)، صادق خلال اجتماع له، على خصم مبالغ من أموال المقاصة الفلسطينية.
وأوضح بيان صادر عن مكتب رئيس وزراء الاحتلال نفتالي بينت، أن (الكابينت) صادق على توصية وزير الحرب بني غانتس بتجميد الأموال التي تحولها السلطة الفلسطينية إلى الأسرى والشهداء وعائلاتهم.
وأشار البيان إلى أنه سيتم اقتطاع 597 مليون شيقل عن عام 2020 من أموال المقاصة المحولة للسلطة، وبعد ذلك سيتم اقتطاع الأموال شهريا من المقاصة. "مرفق انفوجرافيك"
ولم تكتف (إسرائيل) باقتطاع أموال المقاصة فحسب، بل اقتطعت عمولة الـــ 3% لصالح العمال الإسرائيليين على المعابر، بالإضافة الى المبلغ الذي يقتطع تحت بند "صافي الإقراض" ويمثل مخصصات الأسرى المحررين وديون حكومية في قطاعي الصحة والكهرباء والصرف الصحي، للجانب (الإسرائيلي).
وبلغ مجموع الاقتطاعات السابقة حسب بيانات رسمية 1.16 مليار شيكل.
ووفق مراقبين، فإن المبلغ الذي اقتطعته (إسرائيل) يفوق رواتب الموظفين العموميين لشهرين، حيث يبلغ متوسط الراتب الشهري 530 مليون شيكل شهريًا.
ورغم اتفاق الاحتلال مع السلطة الفلسطينية أن خصم صافي الإقراض يتم بالتوافق بين اللجنة الفلسطينية والإسرائيلية التي تنظر نهاية كل شهر بأموال المقاصة، إلا أن سلطات الاحتلال تخصم المبالغ التي تراها مناسبة دون مشاورة الجانب الفلسطيني.
وتشكل قضية الاقتطاع من أموال المقاصة كابوسا لدى رئيس السلطة محمود عباس ورئيس وزرائه محمد اشتية، "ورغم الاتصالات الكثيرة التي أجراها الطرفان من مؤسسات أممية دولية وأوروبية إلا أنهما لم ينجحا في وقف الاقتطاع".
يذكر أن السلطة امتنعت عن استلام أموال المقاصة العام الماضي لأكثر من ثمانية أشهر، ولم تستطع الاستمرار بذات النهج، وعادت لقبولها منقوصة العام الماضي، بعد أشهر من التصريحات التي تناقضت مع فعلها، ووصفت استلامها في ذلك الوقت بـ "الانتصار الكبير".
بدوره، قال المختص في الشأن الاقتصادي نصر عبد الكريم، إن هناك الكثير من الإشكاليات التي تصاحب اتفاقية أموال المقاصة، وبحاجة لحل جذري، "حتى لا تذهب الكثير من أموال الفلسطينيين دون حسيب".
د. عبد الكريم: الكثير من أموال الفلسطينيين تذهب دون حسيب
السلام الاقتصادي
وتعد مطالب السلطة بتسهيلات اقتصادية جزءًا من فكرة "السلام الاقتصادي" التي لا تزال حاضرة في أذهان السلطة، وتعمل حاليا على تطبيقها مجددًا رغم فشلها على مدار عقد ونصف من الزمن.
ويأتي الاتفاق الذي تجري بلورته بين السلطة والاحتلال ضمن بنود بروتوكول باريس الاقتصادي الذي يتنصل الاحتلال من تطبيق ما يخدم الفلسطينيين منه.
ويؤكد مراقبون أنه لا يمكن لـ(إسرائيل) أن تفكر في دراسة الاتفاقية مرة أخرى، "فهي مشروع مربح لها ويدخل سنويا إلى حكومتها ملايين الدولار دون وجه حق، فكيف (لإسرائيل) أن تعيد النظر فيها وهي تنتج أسلحتها وقوتها من فواتير المقاصة التي يحرقها التجار الفلسطينيون ورجال الأعمال خوفًا من الضرائب".
ويشكّل "السلام الاقتصادي" الذي عززته السلطة خلال السنوات الأخيرة جزءاً من اتفاق أوسلو، وشكّل أساساً في "صفقة القرن"، المدخل الاقتصادي لحل الصراع الفلسطيني – (الإسرائيلي) وهو المعتمد من الحكومة (الإسرائيلية) في السنوات الأخيرة.
وتعد اتفاقية باريس الاقتصادية الموقعة عام 1994، أبرز اتفاقية اقتصادية جرى توقيعها بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهي امتداد لاتفاقية "أوسلو".
ويصعب على السلطة فك الارتباط الاقتصادي (بإسرائيل)، كون الاتفاقية لا تتوقف عند تنظيم التجارة الداخلية، بل ربطت النظام المالي والنقدي برمته والتجارة الخارجية وتحديد الضرائب وتحصيلها، ونظام الاستيراد والتفتيش والجمارك والتأمين وتعويض حوادث الطرق، وأسعار المحروقات بالقرار (الإسرائيلي).
ونتيجة لما جاء في الاتفاقية، فقد أحكمت (إسرائيل) سيطرتها على المعابر والحدود والموانئ، "فلا تتم المبادلات التجارية للسلطة مع العالم إلا عبر (إسرائيل) التي تعتبر واقعيا أكبر شركاء السلطة الاقتصاديين، فيما تُعد السلطة ثاني أكبر شريك اقتصادي للاحتلال".
ويتكرر ترديد مسؤولين في السلطة بتوصيات قطع العلاقات مع الاحتلال، إلا أن التطبيق على أرض الواقع يختلف تماما، حيث لا تجرؤ السلطة على تقليص علاقاتها مع الاحتلال عوضا عن وقفها.
وفي هذا الصدد، أكد الأكاديمي الاقتصادي الدكتور نائل موسى، أنه يستحيل على قيادة السلطة قطع العلاقات الاقتصادية مع الاحتلال في ظل الأوضاع الحالية.
د. موسى: يستحيل على قيادة السلطة قطع العلاقات الاقتصادية مع الاحتلال
وقال موسى لـ"الرسالة ": "كيف يمكن للسلطة التي تتقاضى أموالها شهريًا من الاحتلال، أن تقطع علاقتها معها كطفل يتلقى مصروفه من والده".
وأكد أن الكلمة بيد الأقوى وهو الاحتلال، فهو يقطعها ويبقيها متى يشاء، "السلطة ليست طرفًا ليقرر، هي للتنفيذ فقط".
وحول إمكانية إلغاء الاتفاقية، أشار موسى إلى أن وجود السلطة في موقف الضعيف، وفي ظل تحكم الاحتلال بكل شيء يجعل من الاتفاقية غير متكافئة، "فالمعلوم أن الشخص القوى هو من يفرض شروطه والسلطة ضعيفة والاحتلال هو الذي يملي شروطه وفقا لمصالحه".