قائد الطوفان قائد الطوفان

الوريثـــة

بقلم: رشا فرحات

في معطفها الصوفي القديم تدثرت، من برد كاد ينهش ما تبقى لها من عظام، بملامح قد قاربت على الاختفاء، في زمن اخذ منها وجال كيف جال، وبأي حال، حيث غادرها الفرح بعيدا دون رجعة، توقفت أمام ذلك  المبنى الضخم ذو الأعمدة العريضة والبوابة الشاهقة الواسعة، وفي نظرة وجع تطلعت بعينيها حيث المداخن المنتصبة على سطحته، والتي توحي بأنه مصنعاً لمواد التنظيف، هي تتذكر يديها المتسختين حينما كانت صبية تعمل بيديها في صناعة مواد التنظيف، بعد أن أمر والدها بإخراجها من المدرسة لتساعد إخوتها في عملهم، في وقت كان هذا المبنى الضخم حلماً يمر على عقلها كأطياف مستحيلة التحقق، لكنه تحقق بعملها ومثابرتها وصبرها إلى جانب والدها وأخوتها حتى أصبح اكبر معمل لصناعة المنظفات ، واحد من أموال طائلة تركها والدها ثم رحل.

 جالت ببصرها حتى توقفت بنظرة ثاقبة تتفرس وجه ذلك الرجل الذي باتت تحفظ ملامحه عن ظهر قلب، والواقف أمام الباب منتصباً ومن حوله حرس يتشحون بلباس اسود ويتلفتون فوق أكتافهم بحذر بالغ، حتى أوصلوه إلى سيارته بكل حرص ووجل.

 لقد كانت تخاف شقيقها هذا منذ كانت صبية في بيت والدها لا تخرج إلى الحياة إلا لما قل من لحظات، ثم بدأت تخافه أكثر منذ دخل إلى عالم السياسة وأصبحت يده طائلة إلى مالا نهاية، فأي مال هو ذا الذي أتت تعيد عليه طلبه اليوم، ثم تسأل نفسها، هل كان خوف الطفولة ذلك، هو علامة لم تتطلع للإنصات إليها، هل كانت السماء ترسل إليها إشارات لم تستفق منها إلا متأخرا، لقد كانت تتوقع منه أن يفعل بها ذلك، لكن صوت الأخوة بداخلها لم يتخيل ولم يصدق تلك التوقعات.

تحركت العربة حتى اقتربت منها فأبطأت، فتح زجاجها كالعادة ونظر إليها ذلك الجالس بانتصاب القامة، وما بدا عليه من علامات الثراء الفاحش، وبأعقاب سيجارة أجنبية الصنع يضعها بين شفتيه، قبل أن يرميها بكل برادة تحت أرجل تلك المرأة، وقبل أن تتفوه بكلمة واحدة، نظر إليها بغضب مهدداً هامساً في أذنها عن قرب: لو رأيتك هنا فسأبلغ عنك مستشفى المجانين وتكملين حياتك بين المعا تيه حتى تفارقينا.

  رحلت عربته بأسرع مما توقعت، وبعض من النقود الورقية التي ألقاها أمامها تتمدد هزيلة قليلة تحت أرجلها لا تكفي لسد رمقها، ورمق الأرواح التي تنتظرها في ذلك المنزل الصغير البارد،  تتطاير أحلامها أمام أرجلها، فتطير معها أخر ما تبقى من أواصر الأخوة القديمة، فتزداد دقات قلبها وتتسارع أنفاسها موجعة وتخنقها عبرات الألم ، فمن أين أتى ذلك الأخ بذلك القلب المتحجر، وذلك الضمير الميت.

 تمد يدها لتلتقط تلك الأوراق النقدية الشحيحة الملقاة على الأرض، أعيتها عزة النفس والكرامة الذليلة فلم تجد حلا سوى أن تنتشلها، لعلها تكفيها وأبناءها رمق الشهر القادم.

مشت تلفها رياح الشتاء القارصة، وجالت بذاكرتها عبر العشر سنوات السابقة، والتي مرت عليها وسط أوجاع أبناءها واحتياجهم، وسط تضحياتها وأملها وألمها من قبل أشقائها، فرأت في حياتها اختلافا كبيرا، يوم مات والدها تاركاً أمواله الطائلة بيد أخوة عشرة، ليس لهم إلا تلك الأخت التي لم تلقى حقها من الحياة، فكان طردها من حياتهم أسهل ما يكون الطرد، وحرمانها من حقها أمراً ورثوه عن والدهم الذي لم يعترف بحقها عليه وعليهم،  أب عاش طوال  حياته يخاف على قطعة من تراب  وريثتها امرأة، فاندثرت حياته في التراب تاركاً رقبة تلك الأنثى بيد عشرة رجال ورثوا عنه حب المال وكراهية توريثه لها، فتملكوا ووزعوا وقسموا غنائمهم بحضرته وموافقته، وأحلامها وشقاءها وعرقها المتصبب وقف متفرجاً وجلاً على أنيابهم المكشرة في وجهها ، حتى فارقهم ذلك الأب إلى تراب موحش وقد باع لهم كل شيء وتركها عارية وأبناءها في هذه الدنيا.

تطلعت إلى حياتها منذ ذلك الوقت، حينما غادرتهم يائسة تجر ما تبقى لها من كرامة،  وبدأت عاملة في مصنع بدائي، لتعول نفسها وتقيها سؤال أولئك الإخوة، ثم تنظر إلى ملابسها الرثة، وثيابهم الفاخرة، والى أولادها الخمسة، وأبنائهم الممتلئين بالصحة والعافية، فتمقت تلك الأقدار التي دفعتها للإبقاء على كرامة عائلتها فاستغلوها وسرقوا حقها في الفرحة والحياة، وحق أبنائها في تحقيق أحلامهم.

دخلت على أبنائها، وجلة خائفة فقد وعدتهم أن تعود لهم بخبر جديد، ربما قد غير خالهم رأيه، وقرر أن يعيد إلى أمهم حقها الموروث شرعا منذ سنين، ثم يسألونها بلهفة كما اعتادوا، يا ترى استفاق ضميره أخيرا؟!!

 ولكنها التزمت الصمت، خوفاً من كل شيء، خوفا من الفضيحة، خوفا على ذكريات الطفولة، خوفا على أبنائها من جبروت أخوة تطاولوا في الأرض حتى مشوا على رفاتها..

ابتسمت، ثم ضحكت وبدأت بسرد أكاذيبها المعتادة.."خالكم يقرئكم السلام ويقول لكم قريبا سيأتي لزيارتنا" ومن بين دموعها المتحشرجة تؤكد عليهم كيف كان لقاؤها به حميمياً، وكيف أوصلها بعربته الفارهة حتى باب البيت، وكيف وضع بيدها تلك النقود معتذرا عن تأخره.

 وفي ألم تتذكر طفولتها، بيتها، والدها، وجعها، عوز أبنائها.

قبل أن تقوم لتضع أمامهم ما تبقى لديها من طعام .  

البث المباشر